قدّم الرئيس العراقي الراحل صدام حسين خدمة جليلة للبشرية، حين أعطاها درساً مجانياً وعلى الهواء مباشرة، وبالصوت والصورة، في مآل الأنظمة الديكتاتورية، وإن كان الشعب العراقي هو الذي دفع الثمن غالياً طيلة عقود ثلاثة من القمع والعذاب، ثم من الانقسام والتقاتل بعد سقوطه المخجل. كان يُتوقع من أي نظام ديكتاتوري واستبدادي وشمولي رأى بعينيه كيف هوى الصنم في ساحة الفردوس في أبريل 2003، استيعاب ما جرى، والمبادرة إلى إصلاح ما يمكن إصلاحه، والعودة إلى شعبه والتصالح معه، والتوقف عن السير في طريق اللاعودة، وفي هذا حياة لملايين البشر، وللبشرية جمعاء. قصص الديكتاتورية والطغيان نسخ ضوئية بعضها عن بعض، والاختلاف بين القصة المكتوبة بالعربية أو بالفارسية أو بالإسبانية، أو أي لغة أخرى، هو في الزمان والمكان والشخصيات، وتراكيب الجمل والعبارات، وتقديم الفعل على الفاعل والمبتدأ على الخبر، ومخاطبة الذكر والأنثى بصيغتين أو بصيغة واحدة، وربما هناك اختلاف في مواضع علامات الترقيم، لكن بُنية القصة واحدة من حيث الأحداث والمجريات والنهايات الدامية والحزينة. لكن على ما يبدو أن مثل هذه الأنظمة تفكّر كما يفكر السائق المتهوّر، فهو يرى كيف انتهى السائق المتهوّر الذي سبقه، إما في المقبرة أو على كرسي متحرك، لكنه لا يعتبر، ويقول في نفسه إن الأخير ارتكب خطأً قاتلاً حين انحرف فجأة بسرعة عالية، وأن سيارته أصلا لم تكن قوية ومنيعة بما يكفي، وأنه هو أكثر مهارة وخبرة في قيادة سيارته المحصّنة ضد التدهور والتحطم والتحول إلى خردة وكومة حديد، ولن يدري إلا في اللحظات الأخيرة من التهوّر أنه ليس أكثر مهارة ولا فنا ولا هم يحزنون، وأن القضية ليست في هيكل السيارة ومواصفاتها وسنة الصنع، وإنما في التهوّر نفسه، وتأثير بقية الأشياء هامشي، لكن هذه الحقيقة التي وصل إليها متأخراً، لن تفيده وهو يجد نفسه في مواجهة مفتوحة ومؤلمة مع الإسفلت أو عامود الإنارة أو الكتل الخرسانية. لكن مثلما يُقتل يومياً المئات من المتهورّين في أنحاء العالم وتراق دماؤهم في الشوارع، رغم أنهم حضروا الدروس اليومية والمجانية ورأوا العبر المتناثرة أشلاؤها في كل مكان وقبل أيام قليلة، فمثل هذا يحدث مع أنظمة القمع والطغيان والاستبداد، خصوصاً في العالمين العربي والإسلامي، فلم يستفيدوا شيئاً من درس العراق المجاني، ولا يزالون يسيرون في الطريق الخاطئ نفسه، وهناك على الأقل ثلاث دول عربية وإسلامية، مصرّة على المضي إلى نهاية الطريق، ربما شوقاً إلى رؤية صدام حسين في العالم الآخر. المحزن في الأمر أن هذه الأنظمة، حتى حين تستعرض تجربة صدام، وتضع قصة نظامه على طاولة البحث والتحليل، فإنها تفعل ذلك لا بدوافع من يقظة ضمير وعودة إلى الصواب، وإنما لدواعي ضمان استمرارية الحكم وكتم أنفاس شعوبها لأطول مدة ممكنة، لذلك تنشغل بالأخطاء الصغيرة والجانبية التي ارتكبها نظام صدام قُبيل سقوطه، مثل طريقة إدارته لملفاته المفتوحة مع المجتمع الدولي، ثم الخطط التي وضعها لصدّ الهجوم المتوقّع، ووضعية قواته وتأمين خطوطه، والتواصل بين أركان نظامه، والخطط البديلة والطارئة، وتغمض عينيها عن الخطأ الأكبر: الظلم.