شهد العقد الأخير تغيراً جوهرياً في النظرة الثقافية والاجتماعية للتدخين والمدخنين، فقبل وقت ليس بالبعيد كان التدخين يعتبر مظهراً من مظاهر الرجولة، وشكلا من أشكال الاستعراض و"الشوفانية" التي يمارسها أبطال هوليوود وشجعانها. ولكن منذ بدأت تتراكم الأدلة من خلال الأبحاث والدراسات الطبية على أن التدخين عادة صحية سيئة، يمارسها من أدمنوا النيكوتين، لتقضي عليهم في النهاية من خلال السرطان أو أمراض الرئة، أصبحت نظرة المجتمع للتدخين نظرة سلبية، وبصفة عادة كريهة وممقوتة. وهذه النظرة تلتها عدة قوانين، وخصوصاً في العالم الغربي، تحظر التدخين في المواصلات العامة بجميع أشكالها، مثل الطائرات، والقطارات، والباصات، والتاكسيات، وكل ما يستخدم كوسيلة عامة لغرض الانتقال. وهذه الموجة الأولى من التشريعات المانعة للتدخين في وسائل المواصلات، تلتها موجة أخرى لمنع التدخين في الأماكن العامة، مثل المستشفيات، والمطارات، ومحطات القطارات، وأماكن التسوق المغلقة، والمباني الحكومية، وأماكن العمل والشركات والمصانع، وغيرها. وحتى الأماكن التي كانت تعتبر معاقل للتدخين، مثل المطاعم، والمقاهي، أصبح ممنوعاً التدخين فيها حالياً. والخلاصة هي أن المدخن في العالم الغربي، أصبح ممنوعاً عليه التدخين في جميع الأماكن، ما عدا منزله، أو سيارته، أو الشارع، وبشرط أن يكون بعيداً عن مداخل الأماكن العامة، وأحياناً بمسافة لا تقل عن عشرين متراً. ولكن حتى هذا المتنفس الضيق، إن صح التعبير، أصبح هو الآخر مهدداً، إذا ما تمكن الناشطون في مكافحة التدخين من تنفيذ المرحلة التالية من خططهم التشريعية. وهو ما اتضح بداية هذا الأسبوع، عندما طالب البروفيسور "تيرنس ستيفنسون" (Professor Terence Stephenson) رئيس الكلية الملكية لطب وصحة الأطفال في بريطانيا (Royal College of Paediatrics and Child Health)، بضرورة منع البالغين من التدخين في سياراتهم، إذا ما كان في السيارة طفل تحت سن السادسة عشرة. وما يعنيه البروفيسور بهذا المنع، هو ضرورة فرض غرامة أو مخالفة سير من قبل شرطة المرور، مثل المخالفات التي تفرض عند القيادة بدون ربط حزام الأمان، أو القيادة واستعمال الهاتف المتحرك في الوقت نفسه، إذا ما كان هناك شخص بالغ يدخن أثناء وجود طفل داخل السيارة، حتى ولو كانت السيارة متوقفة والنوافذ مفتوحة عن آخرها. وبنى البروفيسور ستيفنسون مطالبته هذه على حقيقتين أساسيتين، أولاهما أن الطفل لا يملك الخيار في الوجود داخل السيارة أو الخروج منها، أي أن وجوده فيها يتم بناء على رغبة الوالدين، أو الشخص البالغ الذي يرعاه حينها. والثانية؛ أن كمية الدخان الصادرة من سيجارة الشخص البالغ، وفي ظل المساحة الضيقة المتاحة داخل السيارة، تسبب أضراراً صحية خطيرة للطفل، تزيد بمراحل عن أضرار التدخين السلبي المعروفة. وهذه الحقيقة تتضح من نتائج الدراسات التي صدرت عن وحدة أبحاث التبغ في أونتاريو بكندا (Ontario Tobacco Research Unit)، التي أظهرت أن تدخين سيجارة واحدة داخل سيارة مغلقة النوافذ، يسبب قدراً من التلوث يزيد بمئة ضعف عن الحد الأقصى المسموح به لتلوث الهواء من قبل وكالة حماية البيئة (Enviromental Protection Agency). وكي ندرك مدى التأثير السلبي للتدخين السلبي على الأطفال، يكفي أن نعلم أن الإحصائيات تشير إلى أن 17 ألف طفل تحت سن الخامسة، في بريطانيا وحدها، يتم حجزهم كل عام في المستشفيات للعلاج من الآثار الصحية لتدخين ذويهم. بينما تظهر الأرقام الصادرة عن بعض المستشفيات، أن ألفاً أو ألفي طفل يتم حجزهم سنوياً في هذا المستشفى الواحد لنفس السبب. وبوجه عام، يتسبب التدخين السلبي في حدوث عدوى تنفسية متكررة لدى الأطفال، والتهابات ومشاكل في الأذن، والإصابة بالأزمة الشعبية أو الربو، وأحياناً حتى في المنظومة المعروفة بوفاة المهد المفاجئة (Sudden Infant Death Syndrome). ومثل هذا الوضع يجعل من المطالبة بمنع التدخين داخل السيارات، أثناء وجود طفل في المقعد الخلفي، أمراً غير غريب أو مستهجن كما قد يبدو للوهلة الأولى. وبالفعل فقد تم سن وتشريع قوانين مماثلة، يتم تطبيقها حالياً في بعض الأماكن، مثل ولاية كاليفورنيا بالولايات المتحدة، ومقاطعة "نيو برنسفيك" بكندا، وقبرص. وهذا النجاح المبدئي الذي تحقق في تلك الأماكن، ومقارنة القانون المقترح بقوانين استخدام حزام الأمان أثناء القيادة، ومنع استخدام الهواتف المتحركة، سيدفع بالمزيد من الجهات التشريعية حول العالم لسن قوانين محلية مشابهة عما قريب، وخصوصاً في ظل التقبل المبدئي من قبل العامة لمثل هذه الفكرة، ليس فقط بين غير المدخنين، بل أيضاً بين المدخنين أنفسهم. وهو ما شجع ناشطي مكافحة التدخين لرفع سقف أحلامهم، والمطالبة في مرحلة لاحقة بمنع التدخين داخل المنازل، إذا ما كان في المنزل طفل دون سن السادسة عشرة. وإن كان من السهل فهم الكيفية التي سيتم بهام منع التدخين داخل السيارات أثناء وجود طفل بها، إلا أنه ليس من الواضح كيف سيتم تطبيق منع التدخين داخل المنازل في حالة وجود طفل. ولكن هذا لم يمنع الغالبية أيضاً من تأييد هذا القانون أيضا، حتى من طرف المدخنين الذين وصلت نسبة تأييدهم إلى 65 في المئة. ومما لاشك فيه أيضاً، أن المزيد من القوانين المشابهة لن يصب فقط في مصلحة غير المدخنين وحدهم، بل وسيشمل المدخنين أيضاً من خلال تقليص الأماكن والفرص التي يمكنهم أن يشعلوا سيجارة فيها، حيث لن يكون ذلك متاحاً عما قريب إلا في الشوارع العامة، أو ربما غياهب الصحاري وقمم الجبال.