نشهد اليوم تحولا جوهرياً في المقولات التي روجت، منذ أن أطلقها صومويل هنتينغتون، للصراع الحضاري بين الإسلام والغرب، وهو صراع زائف ومفتعل، ولا وجود له، وقد أثبتت السنوات اللاحقة مدى تهافته وابتعاده عن الحقيقة، وعندما أقول إنه صراع زائف فهو كذلك لعدة أسباب أهمها وأكثرها وضوحاً عدم تحقق نبوءات هنتينغتون نفسه بتحالف الحضارتين الإسلامية والصينية ومهاجمتهما للغرب في نسخة مبالغ فيها من سيناريو الحرب الباردة، فقد انتهى الأمر بانحياز الصين إلى الجانب الأميركي ووقوفها معه بالنظر إلى المصالح الاقتصادية المشتركة بين الطرفين؛ وأقول أيضاً إنه صراع مفتعل لأنه أسيء استخدامه ووظف في غير نطاقه الأكاديمي الذي ظهر في إطاره بداية الأمر. فقد ساهمت نظرية "صراع الحضارات" الفاشلة في خدمة أهداف بعض الأطراف الأميركية، التي آمنت فعلا بحتمية الصدام بين الغرب والإسلام بمجمله، وليس فقط بين الدول منفردة كما هو الحال في الصراعات الدولية، والسبب في اعتقادي أن الولايات المتحدة لم تنظر إلى هجمات 11 سبتمبر على أن من قام بها دولة بعينها، بل اعتبرتها هجوماً شنه مجتمع بأكمله يكره الأميركيين لما يتمتعون به من حريات ورخاء. وبهذا المعنى الغريب لم تُفهم الراديكالية الإسلامية على أنها رد فعل سياسي أو قومي، أو نتيجة العداء الذي يستشعره بعض العرب تجاه إسرائيل لاحتلالها لأراضيهم، ثم خوفهم من التهديد الاستراتيجي الغربي على الموارد الاستراتيجية التي تزخر بها منطقتهم. وفي هذا السياق تصور العديد من الأميركيين، إن لم يكن أغلبهم، أن الصراع هو بيننا نحن وبينهم هم الذين يمكن إدراجهم في خانة تضم مجموعة من الدول لا فرق بين من يقودها، سواء أكانوا حلفاء لأميركا أو مناوئين علناً لها ولسياساتها في الشرق الأوسط، لأن الجميع كان يصنف، في النهاية، كعدو يتعين الحذر منه، بل وينبغي السعي لإخضاعه. وانطلاقاً من هذا التفكير الثنائي الذي يضع "نحن" مقابل "هم" كان لابد أن يتحرك قادة الغرب وأميركا على وجه الخصوص لمواجهة ما سمي بـ "الخطر الإسلامي" وذلك بقلب بعض الأنظمة وتغييرها، وزعزعة استقرار الحكومات المعادية، أو بحشد الرأي العام الدولي لفرض عقوبات عليها وتشويه صورتها على الساحة العالمية والتعامل مع تلك الدول على أنها "مارقة"، أو دول "فاشلة"، ومهددة بالسقوط بين أيدي القوى الإسلامية المتطرفة المناهضة للغرب. وعند تضافر كافة هذه العوامل يسهل على الغرب اختزال الأمر كله في صراع الإسلام مع الغرب، ما يحتم بلورة الخطط العسكرية لمواجهة التهديد الإسلامي، فيما يلجأ الطرف الآخر في المعادلة، وهي الدول الإسلامية، إلى التعامل مع كل ما يصدر عن الغرب على أنه حرب مبيتة ضد الإسلام. وفي المقابل، فهذه الحرب يرجعها البعض أيضاً في العالم الإسلامي إلى تراكمات تاريخية معقدة من الحروب الصليبية وما تبعها من استعمار في العصور الحديثة واحتلال الأراضي العربية وإقامة إسرائيل عليها، وغزو قناة السويس وانقلاب إيران العسكري في عام 1953، فضلا عن التدخلات المتكررة في لبنان وحربين على العراق ثم غزو أفغانستان، وكل هذه التدخلات والاحتكاكات يضعها البعض في العالم الإسلامي في إطار مشروع إمبريالي جديد تحركه عوامل دينية في الغرب، بالإضافة إلى المصالح النفطية. بيد أن الحرب الدينية التي رُوِّج لها سواء في الغرب، أو في العالم الإسلامي تجاهلت الجزء الكبير من هذا العالم المسلم الذي يقع خارج منطقة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى والممتد على مساحة واسعة في إندونيسيا وماليزيا والصين وأفريقيا، والذي يعيش مشاكله الخاصة بعيداً عن إسرائيل والنفط. فقد أخطأ من اعتقد في الغرب والعالم الإسلامي معاً أن الصراع حرب حضارية. والحال أن الحرب العالمية ضد الإرهاب التي أعلنها بوش ضد الراديكالية الإسلامية، والخوف الذي سيطر على أميركا بعد أحداث 11 سبتمبر، والذي ما زال يشغل الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية حتى اليوم، هما نتاج للأزمة التي تدور رحاها داخل الحضارة الإسلامية نفسها بين الحداثة والتقليد. وهذه الأزمة تتجسد بشكل واضح اليوم في إيران، فالمخاض الذي تمر به الجمهورية الإسلامية تغذيه طبقتها الوسطى التي تتوق إلى الحداثة وتسعى إلى الاندماج في المجتمع الدولي ونيل احترام الغرب حتى لو تطلب ذلك امتلاك مختلف أشكال السلاح باعتباره دليلا آخر على انخراطها في صيرورة الحداثة، فضلا عن رغبة النخب الإيرانية في حجز مقعد لها ضمن المجالس والهيئات الدولية المهمة التي تعتقد إيران أنها تعقد اجتماعاتها في غيابها وضد مصلحتها. لكن الحداثيين في إيران يريدون كل هذا وفي الوقت نفسه البقاء كقوة إسلامية، فهم يسعون إلى الانخراط في العصر دون فقدان روحهم وحضارتهم، على رغم أنهم سيكتشفون لاحقاً كما اكتشفت ذلك تركيا والدول الأوروبية وأميركا نفسها، أنه ليس من السهل الجمع بين الاثنين بالسهولة التي قد يتصورها البعض. وهذا التمسك بالحضارة يجعل الإيرانيين يعيشون أيضاً أزمة دينية جسدتها ثورة رجال الدين في عام 1979 ورفض الإيرانيين لجهود التغريب الحثيثة التي حاول الشاه فرضها على البلاد، ففي عام 1971 أقام الشاه حفلا باذخاً احتفاء بمرور 2500 عام على تأسيس "سايروس العظيم"، الزرادشتي الديانة، لإمبراطوريته الكبيرة، وهو الحفل الذي أطلق عليه آية الله الخميني من منفاه اسم "مهرجان الشيطان" لتعقبه في عام 1979 الثورة التي أطاحت بالنظام الشاهنشاهي ودشنت لمرحلة الحكم الديني. والشاهد أن الاحتفاظ بالماضي كاملا لا يضمن الانخراط في الحاضر دون مجازفات أو أثمان. ويليام فاف كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "تريبيون ميديا سيرفيس"