إذا كانت قضية الترجمة عن الأدب العبري قد تلبست طابعاً سياسياً هذه الأيام في مصر فإن السبب في ذلك يرجع إلى قرار أعلنه وزير الثقافة بترجمة بعض الروايات الإسرائيلية إلى العربية. لقد اعتبر بعض الكُتاب والمثقفين أن هذا القرار يعني إقامة علاقات ثقافية طبيعية مع إسرائيل، ومن هنا وصموا القرار بالصفة الكريهة التي يجسدها لفظ "التطبيع". وعندما دعتني بعض الصحف وقنوات التلفزيون المصرية إلى إبداء رأيي في الموضوع وضعت شرطاً ثابتاً وهو عدم توجيه أسئلة تحرف الحوار معي إلى قصة ترشيح الوزير لرئاسة "اليونيسكو"، وما إذا كان قراره بالترجمة يمثل جزءاً من حملة الترشيح. وبيّنت لكافة المحاورين أن اهتمامي مُنصب على جوهر قضيتين، الأولى هي قضية الاختراق الثقافي الصهيوني للوجدان العربي والمفاهيم العربية المتصلة بالصراع والسلام. والثانية هي قضية التطبيع الثقافي. وبالتالي فإن موقفي من مسألة ترجمة الأدب الإسرائيلي ليكون في متناول القارئ العربي ترتبط عندي بحماية الوجدان العربي من أي اختراق ثقافي يؤثر على الإيمان بثبات الحق العربي في فلسطين وتعرضه للعدوان والاغتصاب عن طريق النص المترجم. وهنا أطالب بفك الالتباس بين مصطلحي التطبيع والاختراق الثقافي. ذلك أن التطبيع الثقافي يعني إقامة علاقة طبيعية مع أي مؤسسة ثقافية أو جامعة أو أديب أو مثقف إسرائيلي بقصد تحقيق مصلحة شخصية أو إشباع نزوة فكرية أو تسهيل معاملة ما وهو أمر يرفضه المجتمع الثقافي في مصر والعالم العربي. وهناك من يأتي رفضه للتطبيع بهذا المعنى المحدد نابعاً من فكرة رفض مبدأ الاعتراف بنتائج العدوان الصهيوني واغتصاب فلسطين. وهناك آخرون يرون أن مبادرة السلام العربية التي أقرتها قمة بيروت عام 2002 قد أوضحت على نحو قاطع أن التطبيع بكل أشكاله مع إسرائيل مشروط بانسحاب إسرائيل من الأرض المحتلة عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وحل مشكلة اللاجئين. إن جماع الموقفين يصل بنا إلى رفض إقامة علاقات طبيعية في الوقت الراهن طالما أن شروط المبادرة العربية لم تتحقق. أما قضية الاختراق الثقافي فيمكن أن تتحقق عن طريق وسائل الإعلام والإنترنت والأفلام وكذلك عن طريق الكتب المترجمة.. وهنا يلزمنا على الأقل أن نضع ضوابط مصاحبة لترجمة النصوص الأدبية العبرية. فأنا أعلم كأستاذ للدراسات العبرية أن الأدب العبري والإسرائيلي سواء كان مكتوباً باللغة العبرية أو غيرها من اللغات محمل كله بالإيديولوجية الصهيونية التي يمكننا أن نسميها بحق "ثقافة الصراع العدوانية". إن المفهوم الرئيسي في هذه الإيديولوجية ينظر إلى المشروع الصهيوني لإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين باعتباره مبرراً لممارسة أية أفعال أو جرائم تؤدي إلى إقامة هذا الوطن. أما إذا أردنا أن نتعرف على هذه المفاهيم من مصدرها فيمكننا أن نوجز هنا رأي البروفيسور يوسف جوراني أستاذ الدراسات اليهودية بجامعة تل أبيب. لقد عرض الرجل المفاهيم الصهيونية الأساسية التي ما زالت محل إجماع من المفكرين والمؤرخين والأدباء في إسرائيل حتى وإن دعوا إلى السلام مع العرب. ويقول جوراني إن هناك مبادئ رئيسية كانت ذات تأثير حاسم على تحديد موقف الصهيونية من العرب منذ اللحظة الأولى. والمبدأ الأول والأهم هو مبدأ تجميع اليهود في أرض فلسطين باعتبارها وطنهم التاريخي. ولقد أدت المطالبة بوطن في الأرض باسم الحق التاريخي من جانب شعب غير موجود بداخلها إلى زعزعة الحق المنفرد لسكان الأرض العرب في نفس المطلب. وهنا يؤكد الباحث الإسرائيلي أن الوجود الطبيعي للشعب العربي في فلسطين لم يكن سبباً يدعو المفكرين الصهاينة إلى التخلي عن أفكارهم بل على العكس فقد صمموا على تنفيذها عبر الاجتهادات الفكرية الممكنة في ذلك الوقت، وقد تركزت في أربع من وجهات النظر. الأولى وجهة نظر قامت على ضرورة الاستئثار بالأرض تطبيقاً لمفهوم الحق التاريخي اليهودي وذلك باقتراح بناء المشروع في معزل عن الشعب العربي وتطبيق سياسة القوة أو الجدار الحديدي كما أسماها جابوتنسكي معه لمنعه من الاعتراض على المشروع الصهيوني. والثانية قامت على فكرة ترويض العرب بالحسنى لمنعهم من مقاومة المشروع عن طريق التودد إليهم وإظهار الاحترام لحضارتهم. أما الثالثة فقامت على فكرة الترويض بالمنافع والمصالح المالية. والرابعة فكرة نادى بها الصهاينة اليساريون بالوحدة مع العرب في إطار وحدة البروليتاريا العالمية. إن هذه الاتجاهات الفكرية التي نشأت في مطلع القرن العشرين عندما كانت الصهيونية بلا أسباب للقوة في مواجهة ستمائة ألف عربي قد تطورت مع زيادة أسباب القوة السياسية والعسكرية والدولية حتى وصلت إلى الطرد عام 1948 ثم التوسع عام 1967 أو مواصلة سياسة الاستيطان والعزل وبناء الجدار واستخدام القوة. إن الأدب الإسرائيلي محمل بكل هذه الأفكار على نحو يلزمنا بشرحه وتفسيره قبل ترجمته وتقديمه للقارئ.