بدت المسيرة الديمقراطية في الشرق الأوسط مطلع عام 2005 وكأنها وصلت مرحلة اللاعودة وباتت أمراً حتمياً، وقد عزز هذا الاعتقاد وساهم في ترسيخه لدى العديد من المراقبين خروج مئات الآلاف من اللبنانيين إلى شوارع بيروت للاحتجاج على الوجود السوري والمطالبة بمغادرته للبلاد، فضلاً عن مشاركة ثمانية ملايين ونصف مليون عراقي في الانتخابات العامة، بل حتى النظام في مصر سمح بتنظيم انتخابات رئاسية تعددية، وهو ما أنعش الأمل في "ربيع عربي" يخرج المنطقة من حالة الركود السياسي التي تشهدها. لكن بحلول عام 2006، بدأت تلك الآمال في التبخر وتحول ما بدا في الماضي على أنها مسيرة غير قابلة للارتداد إلى سراب بعيد المنال بعد انحدار العراق في حرب أهلية ساهمت في تأجيجها الانتخابات التي عززت الانقسامات الطائفية، ووصول "حماس" إلى السلطة بعد الانتخابات التي شهدتها الأرضي الفلسطينية، فيما تعرضت الإصلاحات السياسة إلى الانتكاس في بلدان عربية عديدة. وبسبب هذا الارتداد عن الربيع الديمقراطي في الشرق الأوسط، خلص بعض المحافظين الأميركيين إلى أن الديمقراطية تشبه وردة هشـة تحتاج، لكي تنمو وتزهر، إلى أرضية ثقافية خصبة تتيح لها البقاء على قيد الحياة، وذهب البعض الآخر من الليبراليين إلى ما يشبه التشفي في إخفاق أجندة بوش الديمقراطية، رغم ما ينطوي عليه هذا الفشل من انتكاسة لليبرالية السياسية. وكان لافتاً إبداء بعض الأميركيين ارتياحهم في الوقت الذي تتعرض فيه المثل والمبادئ التي تقوم عليها بلادهم للتراجع في إحدى مناطق العالم. ومع ذلك، يبدو أن الربيع يعود ليطل مجدداً على الشرق الأوسط، حيث أفرزت انتخابات مجالس المحافظات في العراق، والتي نظمت في شهر يناير الماضي، تقدماً ملموساً للقوى العلمانية والوطنية على حساب الأحزاب الدينية، وفي لبنان مُني "حزب الله" بهزيمة قاسية في الانتخابات الأخيرة، وصعدت النساء لأول مرة إلى البرلمان الكويتي، وبالطبع جاءت المفاجأة من إيران التي خرج فيها نساء ورجال شجعان إلى شوارع وساحات طهران احتجاجاً على نتيجة الانتخابات، مؤكدين بسلوكهم ذلك أن الديمقراطية، وليس فقط العدمية، يمكن أن تدخل قاموس الشهادة في العالم الإسلامي. وإذا كانت من عبرة يمكن استخلاصها من الوضع المتذبذب في الشرق الأوسط بين تقدم الديمقراطية وتراجعها، فهي ذهاب الخبراء بعيداً في التأويل لتأكيد آراء ومواقف مسبقة. والحقيقة أنه لا يمكن أبداً الجزم بنتيجة قطعية لتبقى الديمقراطية في مد وجزر بين تطلعات المثاليين الأميركيين وحذر الواقعيين. لكن، وفيما يسير التطور الديمقراطي بالشرق الأوسط في خط غير مستقيم، فهو أيضاً لا يحدث عشوائياً، بل يحتكم إلى نسق معين، فلو أخذنا التطورات الجارية حالياً في المنطقة، بدءاً من الديمقراطية الدستورية في العراق، والحركة الإصلاحية في إيران، وليس انتهاء بالإنجازات الديمقراطية في دول الخليج ولبنان... نلمس أننا بصدد مرحلة مهمة من التقدم الديمقراطي في تاريخ المنطقة. وبالنظر إلى هذه التطورات، يبدو أن الشرق الأوسط ليس بعيداً عن الحراك الديمقراطي، وهناك العديد من الأسباب التي ستحافظ على الأجندة الديمقراطية في صلب السياسة الخارجية الأميركية مهما تغيرت الظروف. أولاً؛ لا يمكن للشرق الأوسط أن يحرز تقدماً ما دون إصلاح سياسي واقتصادي، فالإحصاءات تشير إلى أن الناتج الإجمالي المحلي لدول العالم العربي هو أقل من الناتج الإجمالي المحلي لإيطاليا، كما أن متوسط الحياة في تلك الدول هو أقل بست عشرة سنة مما هي عليه الحال في إسرائيل. فما هو النظام السياسي، أو الاجتماعي القادر على تغيير هذا الوضع وتحسين ظروف الاقتصادية والمعيشية لسكان الشرق الأوسط؟ هل هي الديكتاتورية على شاكلة صدام؟ أو النظام الديني على الطريقة الإيرانية؟ الحقيقة أنه لا توجد خيارات واقعية أخرى عدا الديمقراطية والحرية لتحقيق الرخاء والازدهار في المنطقة، والسبب ليس خافياً على أحد، إذ معروف أن الأنساق السياسية والاجتماعية التي تكافئ روح الإبداع لدى مواطنيها تخلق الثروة وتؤدي إلى التقدم. أما السبب الثاني الذي يدفع إلى تكريس الأجندة الديمقراطية في المنطقة، فهو أنها المخرج الوحيد لأميركا في الشرق الأوسط؛ لأن الأنظمة التي تقمع شعوبها تكون أكثر قابلية لتهديد جيرانها ولدعم التنظيمات الإرهابية، لصرف الانتباه عن الإخفاقات الداخلية والسعي لحيازة الأسلحة النووية. ومع أن الديمقراطيات الأخرى لا تطبق بالضرورة ما نريده نحن في الولايات المتحدة، إلا أنها تبقى أكثر استقراراً وحفاظاً على السلام من الدول والأمم التي تخضع لمزاجية الأنظمة المستبدة. ورغم التحديات التي تعترض عملية تعزيز الديمقراطية في الشرق الأوسط، مثل تقوية المجتمع المدني واحترام الدساتير وغيرها، فإن أميركا ستواصل دعمها للديمقراطية باعتبارها جزءاً أصيلاً من سياستها الخارجية والتي تقوم، منذ أن تبلورت بعد الحرب العالمية الثانية، على أن المصالح الأميركية تُخدم بشكل أفضل عندما تتوسع الحريات في المجتمعات وتعتنق الشعوب الاقتصاد الحر، وهو ما حرص الرؤساء الأميركيون على تأكيده حتى وهم يتعاملون أحياناً مع أنظمة ديكتاتورية مثلما قام به روزفلت عندما اجتمع بستالين دون أن يمنعه ذلك من التشديد على حاجة العالم للحرية والديمقراطية. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"