بعد أربع سنوات وسبعة أشهر و23 يوماً، على استقالة رفيق الحريري من منصب رئيس الوزراء اللبناني، معتذراً عن تشكيل حكومة جديدة، وسط خلاف مع الرئيس إيميل لحود في حينه، ها هو نجله، السياسي ورجل الأعمال الشاب سعد الحريري، يتسلم تكليفاً رسمياً بتولي ذلك المنصب. فإثر قيامه بالاستشارات الإلزامية وفقاً للدستور اللبناني، وبعد تبلغه بموافقة 86 نائباً في البرلمان، أصدر رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال سليمان، أول أمس السبت، قراراً بتسمية الحريري الابن رئيساً لحكومة لبنان الجديدة. وكان تكليف الحريري متوقعاً، لاسيما بعد أن أصبح مرشح الأغلبية البرلمانية منذ الخميس الماضي، وعلى خلفية اللقاء الذي عقده مع أمين عام "حزب الله"، في اليوم نفسه، وجرى خلاله "بحث الوضع السياسي في البلاد". أما التطور الأكثر حسماً في التمهيد لقرار التكليف، فكان فوز تحالف "14 آذار" الذي يقوده سعد الحريري بأغلبية مقاعد البرلمان في انتخابات السابع من يونيو الجاري، حيث عادت مجدداً التكهنات بتسلمه قيادة الحكومة، بدلا من فؤاد السنيورة الذي ترأسها خلال السنوات الخمس السابقة. لكن صعود الحريري إلى ثاني أعلى منصب رسمي في لبنان، لا ينفصل عن سياق الواقع اللبناني نفسه، أو عن الخلفية العائلية والسياسية والمالية له هو شخصياً. في لحظة تاريخية حرجة من حياة لبنان واللبنانيين، طغت فيها خطوط التدخل الإقليمي والدولي على تقاسيم الخريطة اللبنانية، اغتيل رفيق الحريري بعملية تفجيرية في بيروت، يوم 14 فبراير (آذار) 2005، ليحدث غيابه المفاجئ صدمة عامة وليخلف "فراغاً سياسياً" واسعاً. وبعد نقاشات إعلامية حول خلافته، اتضح أن ابنه الثاني سعد الحريري هو من سيطلع بأعباء قيادة التحالف السياسي الناشئ (14 آذار) المكون من قوى تتفق على معارضة الوجود السوري في لبنان، وعلى توجيه الاتهام لدمشق بالتورط في حادثة الاغتيال. وقد جعل الحريري الابن من قضيتي إنهاء "الوصاية السورية"، وإنشاء محكمة دولية حول اغتيال والده، أبرز اهتماماته التي كرس لها وقتاً وجهداً واتصالات واسعة. وبالفعل فقد خرجت سوريا من لبنان، بضغط إقليمي ودولي وعلى إيقاع "ثورة الأرز". كما تشكلت المحكمة ذات الطابع الدولي لمحاكمة قتلة رفيق الحريري. أما داخلياً فكان أداؤه في انتخابات مايو 2005 التي أوصلته إلى مجلس النواب لأول مرة، إنجازاً سياسياً كبيراً، إذ استطاع تحالف "14 آذار" تحت زعامته نيل أغلبية مقاعد البرلمان، كما أصبح هو شخصياً رئيس الكتلة النيابية لـ"تيار المستقبل" الذي كان قد أسسه والده... لكن الحريري الابن لم يشأ أن يتقلد رئاسة الحكومة، فآثر بها السنيورة الذي كان أحد أقرب معاوني والده. أما حين قبِلَ المهمةَ وتم تكليفه رسمياً الآن، فقد أصبح أصغر رئيس حكومة في العالم. وقد ولد سعد الدين رفيق الحريري عام 1970، لرجل الأعمال ورئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، من زوجته الأولى نضال بستاني. درس الابتدائية بمدينة صور في لبنان، قبل أن يلتحق بإحدى المدارس الداخلية الفرنسية، ثم يتابع دراسته الجامعية في جامعة جورج تاون بواشنطن، ليحصل منها على شهادة في إدارة الأعمال. وبعد نيله الشهادة الجامعية، التحق سعد الدين بعدد من الشركات التي يملكها والده، فبين عامي 1994 و2005 عمل مديراً عاماً لشركة "سعودي أوجر" التي كان قد أسسها الحريري الأب ويعمل بها حوالي 35 ألف موظف. في تلك السنوات وأثناء حياة والده، لم يشتغل سعد بالسياسة ولم تكن من اهتمامه أصلا، أما بعد حادثة الاغتيال فسرعان ما وجد نفسه في قلب العملية السياسية، وسط لفيف من الساسة اللبنانيين. وفي لبنان حيث يلعب المال دوراً محورياً في السياسة، ورث سعد الحريري عن والده ثروة طائلة، وقد صنفته مجلة "فوربس" عام 2007 ضمن لائحة أثرى أثرياء العالم بثروة تتجاوز 3.2 مليار دولار. ومن الشركات التي يرأسها ويملكها شركة "أوجر تليكوم" العاملة في مجال الاتصالات، والشركة القابضة "أمنية هولدنجز"، كما أنه مساهم في شركات أخرى مثل "مؤسسة الأعمال الدولية"، و"بنك الاستثمار السعودي" و"مجموعة الأبحاث والتسويق السعودية"، فضلا عن شركات أخرى منها "تلفزيون المستقبل". أما سياسياً فقد ورث سعد عن والده زعامة "تيار المستقبل" الذي أصبح منذ انتخابات عام 2005 يحظى بأكبر كتلة نيابية في البرلمان اللبناني، كما ورث عنه تحالفاته الخارجية، إقليمياً ودولياً. فقد هاجر رفيق الحريري إلى السعودية في ستينيات القرن الماضي وحصل على جنسيتها عام 1978، وساهم في إبرام اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية اللبنانية عام 1990، حيث تولى أول وزارة في لبنان بعد الحرب الأهلية. أما علاقته بفرنسا فقد توطدت أكثر بعد ابتعاده عن دمشق، وتحالفه (كممثل لسنة لبنان) مع الموارنة المسيحيين الأقرب تقليدياً إلى قلب فرنسا. ومع ذلك فتركيبة الإطار العائلي لسعد الدين الحريري، تعكس جانباً من التقاطعات العربية والدولية على ساحة لبنان في لحظة من تاريخها؛ فهو مولود بالرياض، ويحمل الجواز السعودي، إلى جانب الجوازين اللبناني والفرنسي. ووالدته عراقية المولد والجنسية. أما زوجته "لارا بشير العظم" فهي سورية تنحدر من عائلة دمشقية عريقة. ولا شك أن تراجع وتيرة التجاذب الإقليمي والدولي على أرض لبنان، سيكون مفيداً لحكومة الحريري القادمة، بعد أن عانت حكومة السنيورة (وبالتالي "تيار المستقبل") من التدافعات التي بلغت ذراها خلال حرب صيف 2006، ومع اعتصام المعارضة في ساحة السراي الحكومي، وأثناء أزمة الشبكة الهاتفية لـ"حزب الله"... قبل أن تنزع فتيلها اتفاقية الدوحة. إنه الاتجاه العام الذي يبدو من الخطاب الذي ألقاه سعد الحريري بعد تكليفه أول أمس السبت، أنه يريد تكريسه وينوي ترسيخه؛ فقد وعد بتشكيل حكومة وحدة وطنية، وتعهد أن يأخذ في الاعتبار مصالح وهواجس المعارضة. وهو توجه شبيه بما درج عليه والده من سياسة تسعى إلى تجاوز التناقضات الداخلية والإقليمية إلى البحث عما يعزز التكامل في هذه المساحات الحساسة ويثمنه. محمد ولد المنى