في مسرحية "قمر وسنابل" الفلكلورية الفلسطينية التي عُرضت على مسرح قصر الثقافة في رام الله قبل أيام تركض "الحاجة أم سعد" وهي في نهاية العمر باتجاه أبناء المخيم المتصارعين. تقرّعهم على خلافهم وتستحلفهم بقدسية الأرض أن يتوحدوا. "الحاجة" الطيبة هي ابنة الأرض، وسنديانة الذكريات، وضمير الناس العاديين ووجدانهم. هي التي تأوي يونس المناضل المطارد، وهي التي تهدهد "سنابل" حبيبته التي تخاف عليه رصاص العدو، ووشايات العملاء. و"أم سعد" هي أم الجميع، تعمل المستحيل كي تزوج العاشقين، وترقب كل شاردة وواردة في المخيم كما صقر يقظ. وما هدت همتها وحشية المحتل، بل هدها خلاف أهل المخيم. وكلما كانت تتلفظ بكلمة الوحدة ونبذ الشقاق كان الجمهور المحتشد الذي فاض إلى خارج فضاء المسرح يهب مصفقاً وطويلا. وقبل عرض المسرحية بأيام كان إبراهيم نصر الله ينثر الندى شعراً رقيقاً ورهيفاً في حديقة مركز خليل السكاكيني الثقافي، وروح ساكنه محمود درويش تظلل الجميع. وكلما مال نصر الله شعراً إلى ما فيه تغنٍّ بالوحدة كان الجمهور يصفق باليدين وبالقلب. بعد المسرحية بيوم وفي مؤتمر اليسار الفلسطيني في مقر الهلال الأحمر الفلسطيني كان التصفيق يندلع أيضاً كلما نودي للوحدة، وانتقد الانقسام. وهنا في كل مكان في هذا الوطن الفلسطيني، كما حيث يتواجد الفلسطينيون في الشتات، البوصلة الشعبية والجمعية هي التالية: الناس مهجوسون بالوحدة ولم الصف، يحبون من يعمل من أجلها، ويكرهون من يكرسها. ويحضنون من يعمل لها، وينبذون من يعمل ضدها. أما التفاصيل الأخرى فلم تعد مهمة. من فعل ماذا، وكيف أصبحت جدلا سقيماً لا يقود إلى شيء. هناك أبيض التوحد، وأسود الانقسام، والرموز والقيادات والناطقون الرسميون من "فتح" و"حماس" وغيرهما من الفصائل يتوزعون في المخيلة العامة على هذين التقسيمين. والذين يسعِّرون من الهجوم على "الخصم" يخسرون كثيراً، فضلا عن تعميقهم للانقسام. والذين يتجاوزون الحقيقة التي هي بحجم الشمس وتقول إن كلا من المختلفين لن يكون بإمكانه إلغاء الآخر. فلذلك يغدو الجهد المبذول من قبل الدوائر لإعاقة الحوار، أو قتله، أو جعل الوصول إلى حل شبه مستحيل، ذلك الجهد يبدو عدمياً عملياً ومدمراً سياسياً. وعلى خلفية العطش الشعبي الفلسطيني للتوحد جاءت تصريحات عزيز الدويك، رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني، وعلى مدخل مقر المجلس المؤكدة على أولوية الوحدة، وانهماك قادة السجناء الفلسطينيين بإعداد تصورات تواجه الانقسام. وقد تابعت تصريحات الدويك خلال الأسبوع الماضي وفيها نجح للحق وللإنصاف في إشاعة أجواء من التفاؤل وفتح نوافذ أمل. إذ لم يستطع أي من الصحفيين استثارته وتوريطه في تعليق أو تصريح يصب الزيت على نار الخلاف. وظهر وحدوياً، ملتزماً بتوصيفه الوظيفي ومنصبه الرسمي كرئيس للمجلس التشريعي، وليس كقيادي من "حماس". وعندما سألته إحدى وسائل الإعلام لجره بطريقة غير مباشرة لمقارنة شعبية "فتح" وشعبية "حماس" في الضفة الغربية عن طريق الإشارة إلى الاستقبالات الكبيرة التي لقيها في الخليل ورام الله، أجاب إن ذلك يعكس تقدير الفلسطينيين لأسراهم الصامدين خلف قضبان الاحتلال، وهذا أهم ما يجب أن يُقرأ فيها. وكان المشهد التفاؤلي الذي يحتاج الفلسطينيون إلى أضعافه قد اكتمل لو عمد الرئيس الفلسطيني "أبو مازن" إلى استقبال الدويك مباشرة عقب إطلاقه، كما فعل مع المناضل الفتحاوي جمال حويل الذي قضى سبع سنوات في سجون الاحتلال. ومع ذلك أصاب "أبو مازن" عندما كان أول من اتصل بعزيز الدويك مهنئاً على الإفراج، كما أصاب عديد من قيادات "فتح" والقيادات الفلسطينية من الفصائل الأخرى بزيارتهم الفورية وتهنئتهم للدويك بالإفراج. لكن فوت "أبو مازن" فرصة استقبال الدويك في المقاطعة في يوم الإفراج نفسه، والتي كانت ستدلل على أن الرئاسة الفلسطينية تشمل كل الفلسطينيين. بدا "أبو مازن" في استقباله لحويل، وعدم استقباله للدويك وكأنه رئيس "فتح" وليس رئيس الفلسطينيين برمتهم. وحتى من ناحية سياسية وبراغماتية صرفة وبحسابات الربح والخسارة فإن الرئاسة و"أبو مازن" تحديداً كانا سيكسبان كثيراً لو فعل. وفي كل الأحوال يمثل إطلاق الدويك ووجوده في الضفة الغربية نافذة أمل في تعزيز خط الوحدة على خط تعزيز الانقسام بين الفلسطينيين. فالدويك يتصف بالهدوء والعقلانية والبعد عن الانجراف إلى خطابات التطرف. وبرمزيته كرئيس للمجلس التشريعي الفلسطيني يحظى بوزن مهم سواء على المستوى الحزبي "الحمساوي"، أو الوطني الفلسطيني. وربما أتاحت له سنوات السجن الثلاث التأمل عن بعد ورويّة في الحال الفلسطيني المشتت، والوصول إلى رؤى وخلاصات ومقترحات تُساهم في تغيير الأمر الانقسامي القائم. لكن نافذة الأمل الأكبر والأهم وربما الأخيرة تظل في جولة الحوار الراهنة في القاهرة. فهناك وكما يصر الوسيط المصري يجب أن يتوصل الفلسطينيون إلى اتفاق وطني قبل السابع من الشهر القادم، وإلا فإن مصر ستفرض اتفاقاً من لدنها. والراهن أن العقبات والأزمات أمام الوصول إلى رزمة اتفاق شاملة ما زالت كبيرة وتغلّب احتمالات الفشل على النجاح، لكن من حقنا أن نتعلق ولو بقشة أمل هنا. فالفشل سوف يضع الفلسطينيين أمام سيناريوهات قاتمة حقاً: في السياق الأعرض والعام ستصبح القطبية الفلسطينية، سياسياً وجغرافياً وديموغرافياً، موزعة على الانقسام الضفاوي الغزاوي هي الحقيقة الأكثر بروزاً وتأثيراً على المستقبل الفلسطيني. وسنواجه سيناريو الكيانين، وعلينا أن نعيش معه إلى ما شاء الله، وبكل ما يفرزه من أوجه دمار على القضية وأصحابها ومستقبلها. وفي السياقات الأقل والمباشرة وقصيرة المدى فإن فشل حوارات القاهرة يعني شطب الانتخابات المفترضة في يناير القادم، وتكريس الوضعين القائمين من ناحية سياسية وعلى قواعد شرعية هشة. فمن دون انتخابات ستتجه الأشكال القانونية إلى ترتيبات ديكتاتورية، ضعيفة دستورياً، وغير ديمقراطية. وحتى لو اتجهت الأمور نحو تنظيم انتخابات منفصلة، واحدة في الضفة الغربية، وأخرى في قطاع غزة، فإن ذلك لا يعمل سوى تقنين الانفصال وتأبيده. وبالتوازي مع ذلك سوف تتحول "سياسة الاعتقال المتبادل" المؤسفة والمخجلة التي نراها الآن إلى النمط المؤسس للعلاقات التنظيمية والانتقامية بين التنظيمين الفلسطينيين الأكبر -مستلهمة نمط الدولة البوليسية العربية. وستصبح "فتح" محظورة في "كيان غزة"، وتصبح "حماس" محظورة في "كيان الضفة"، ويعود نصف الفلسطينيين للعمل السري، لكن هذه المرة ضد بعضهم بعضاً. وسيحدث كل ذلك وكثير غيره فيما نكون جميعاً قد نسينا الاحتلال، وانشغلنا عن تكرس الاستيطان والتهامه لمزيد من الأراضي، واندثار القدس تحت مشاريع التهويد المخيفة -ولربما تأتينا "الحاجة أم أسعد" في مناماتنا لتقرعنا وتقول للواحد منّا: كل وطن وأنت بخير!