ينظر إلى اللغة على أنها "وعاء الفكر" وتعبير عن الهوية والاستقلال من منطلق ارتباطها الوثيق بالجماعة البشرية التي ترددها. ولغة الصوفية ذات طبيعة خاصة، لأنها تعتمد على الرمزية في التعبير، فعباراتها تحمل معاني لا يُدرَك الكثير منها إلا بالتحليل والتعمق في التأويل وتبدو في أغلب الأوقات بعيدة على العامة في فهمها وهضمها. والقاموس الصوفي استطاع أن ينحت لغة شديدة الخصوصية تشير إلى الأفكار والأحوال والمقامات الصوفية في تميز واضح عن لغة الفقه. وتنطبق على كلمات المتصوفة خصائص لغة الشعر التي تتجه إلى مخاطبة الوجدان والعواطف لا الإدراك والتفكير، وغرضها الأساسي هو الإيحاء بالحقائق والأحاسيس لا شرح القضايا وتقريبها إلى الأذهان، فهي لغة غامضة تتعمد الإبهام ويسيطر عليها الخيال وتكثر في عباراتها التشبيهات واستخدام الكلمات في غير موضعها عن طريق الكتابة والمجاز، وهي لغة تنفر من التحليل والبرهنة وتكره التعمق في الشرح والاستدلال. وهذه الخصوصية وهذا الغموض له مردود من الناحية السياسية من حيث تدعيمه لقيم معينة بعضها سلبي وبعضها إيجابي، فالكلمة في النهاية تساهم إلى حد بعيد في خلق الظاهرة الاجتماعية والسياسية. ويمكن تناول ذلك على النحو التالي: 1 - تعلي هذه اللغة من قيمة التعاون والتماسك داخل الطريقة الصوفية، فضلا عن كونها أداة لمناجاة الخالق جل شأنه وعلت قدرته، فتفرد جماعة معينة بلغة خاصة تميزها عن الجماعات الأخرى يشعر أفرادها بالمصير المشترك ووحدة الهدف، ويزكي قيمة الانتماء للجماعة، ما ينعكس على ترابطها وتماسكها ويضبط توزيع الأدوار بين أفرادها، فلا يهم المعنى الحرفي للكلام بقدر ما يهم مجرد استعمال صيغ معينة موحدة متعارف عليها، وهذه الصيغ قد تكون كلاماً وألفاظاً وقد تكون أفعالا سيميائية غير لفظية مثل ظاهرة التقبيل عند الطريقة الحامدية الشاذلية والتي تسمى "المصافحة"، فهي لغة غير منطوقة ولكنها طقوس تستعمل لتأييد العلاقات الاجتماعية القائمة في الطريقة الصوفية، وهذا ما أطلق عليه المفكر الألماني يورجان هابرماس "الأفعال الكلامية المؤسسة". وهناك خاصية أخرى للغة الصوفية تدعم التماسك والتوحد داخل الطرق وهي أن المتصوفة يعتمدون على "الكلمة المنطوقة" أكثر من اعتمادهم على الكلمة المقروءة، فالكلمة المنطوقة تشكل الكائنات البشرية في مجموعات ذات وشائج موحدة، فعندما يخاطب متكلم ما جمهوراً فإن أفراد هذا الجمهور يصبحون في العادة وحدة سواء فيما بينهم أو مع المخاطب، وإذا طلب المتكلم من الجمهور أن يقرأ ورقة في موضوع واحد يوزعها عليهم فإن وحدتهم تتلاشى إذ يدخل كل قارئ في عالم قراءته الخاص، ولا تستعاد وحدة الجمهور إلا عندما يبدأ الكلام الشفاهي مرة ثانية. ونظراً لأن اللغة الصوفية لا يفهمها إلا الخاصة داخل الطرق المفتوحة أمام العامة بمن فيهم الأميون فإن الأذكار والأوراد تحفظ وتنطق شفاهة ويرددها البعض من دون إدراك تام لأسرارها أو كنهها ومعانيها، وهذه الشفاهية تعد إحدى ركائز التماسك داخل الطرق الصوفية. 2 - إن خصوصية وغموض اللغة الصوفية زادا من بعد المسافة بين المتصوفة والفقهاء من ناحية وبينهم وبين المؤمنين بالمنهج العلمي في التفكير من ناحية أخرى، ما أذكى صراع هاتين الجبهتين ضد المتصوفة، فالفقهاء يرون أن لغة المتصوفة قد تحمل بعض الشطط عن الشريعة تحت دعوى تقديم الحقيقة عليها، والعلماء يرون أنها لغة تعبر عن حدس لا يمكن قياسه أو إخضاعه للبرهان العلمي. وقد شكل التيار الصوفي نموذجاً خاصاً في المعرفة الإسلامية لا يقتنع بالتجريب ولكن يؤمن بالحدس. فإذا كان الفلاسفة يستخدمون مناهج العقل في التوصل إلى حقائق الأشياء، والمتكلمون يستخدمون العقل في إثبات العقيدة الدينية أو تفنيد حملات خصومهم وحجج أعدائهم، والعلماء يستخدمون مناهج الملاحظة والتجربة في معرفة كُنه الأشياء، فإن الصوفية يستخدمون الكشف أو الذوق الصوفي طريقاً إلى إدراك الحقائق المستترة وراء المحسوس، وهذا الكشف أشبه بومضة سريعة الزوال ويجيء بعد رياضة بدنية ومعاناة نفسية. والمعرفة الصوفية هي معرفة مباشرة لا تحتاج إلى وسائط من مقدمات أو قضايا أو براهين وهي فوق العقل لا يملكها إلا من سلك سبيل التصوف، وقد أطلق أبو حامد الغزالي على هذه المعرفة "علم الوراثة" وتمثل لديه الفقه في الدين. وهذه المعرفة لا يمكن الوصول إليها بالتعلم بل بالذوق والحال، وهو نور عرفاني يقذفه الحق في قلوب أوليائه فيفرقون بواسطته بين الحق والباطل من دون أن يعتمدوا في ذلك التفريق على كتاب أو غيره. وقد قارن الغزالي بين المعرفة القائمة على "الحس" أو "العقل" والمعرفة الحدسية وانتهى إلى القول إن المعرفة الحدسية أو الكشف الصوفي تنتج ما لا يمكن أن تعرفه الحواس ويعجز عنه العقل خاصة في الأمور الغيبية. وبصفة عامة نجد أن المعرفة الصوفية تختزل المعرفة عامة من كونها مجموعة من الخبرات والتجارب وأساليب تنظيمها، التي تتكون من خليط متراكم من المعلومات والتقنيات والنظريات والأيديولوجيات والأخلاق، إلى علم باطني كشفي لا يخضع لبرهان العقل، ويرى أن ما لا يعتمد على الحدس فهو غارق في النقصان أو على حد قول القشيري "لو أن رجلا جمع العلوم كلها وصحب كل طوائف الناس لا يبلغ مبلغ الرجال إلا بالرياضة من شيخ أو إمام أو مؤدب ناصح، ومن لم يأخذ أدبه من أستاذه يريه عيوب أعماله ورعونة نفسه لا يجوز الاقتداء به في تصحيح المعاملات". ويتضح هذا جلياً في رد أبي يزيد البسطامي على بعض العلماء الذين طعنوا في كلامه حين قال لمن اتهمه بأن كلامه خارج العلم: أكلَّ العلم قد بلغت؟ فقال: لا.. فرد البسطامي قائلا: هذا من العلم في النصف الذي لم يبلغك. وترجمة هذه المعرفة الصوفية في التنشئة السياسية تعني ما يلي: 1 - تدعيم لوجود نموذج معرفي يخلق عقلا يدعي امتلاك الحقيقة لأنه على اتصال مباشر بالذات العليا، ومعارفه لا مجال فيها للبرهان العقلي فهي هبة إلهية، ولذا يفشل كل من يطلب منه مواجهة الواقع العملي باستخدام أدوات ملموسة وواقعية، وهذا التعالي قد يؤدي من جهة ثانية إلى تكريس الانعزال والسخرية من أفكار البشر العاديين الذين قد تشغل السياسة جزءاً كبيراً من اهتمامهم وتفكيرهم. 2 - تكريس قيم السلطة العرفانية ويصبح كل شيء حدسياً، يكون الجميع مجردين من السلطة التي ينتجها العقل ويحميها، وفي الوقت نفسه يتوازى خضوعهم للسلطة مع خضوعهم للذات الإلهية وتصير السلطة في نظرهم هي عين الله الساهرة. 3 - قد تقود أشكال من المعرفة الصوفية إلى إحاطة الشخص الذي تدرج في مراتب التصوف حتى بلغ منزلة مرموقة بهالة، خاصة أن المعرفة الحدسية لا يمكن التحقق من صدقها أو زيفها. ولذا يرى بعض المتصوفة أن الصوفي شخص متفوق على ما عداه من البشر، وفي هذا الشأن يقول الدكتور عبدالحليم محمود شيخ الأزهر والصوفي الكبير: "إن التصوف أرستقراطية، فطبيعة الأمور تأبى إلا أن يكون كذلك، إنه نظام الصفوة المختارة، نظام هؤلاء الذين وهبهم الله حساً مرهفاً وذكاءً حاداً وفطرة روحانية وصفاءً يكاد يقرب من صفاء الملائكة وطبيعة تكاد تكون مخلوقة من نور".