أصدر المفكر المغربي "عبد الله العروي" مؤخراً الصيغة الفرنسية من كتابه "السُنة والإصلاح"، الذي يعتبر دون شك من أبرز أعماله الفكرية الثرية الغزيرة (اصطلاحات ولغة المؤلف أكثر رصانة وجلاء بالفرنسية من اللغة العربية). وينطلق العروي في الكتاب المذكور من فكرة رئيسية مفادها أن المأزق الإصلاحي في التقليد الإسلامي راجع إلى أصول تشكل المرجعية الإسلامية بعد العهد النبوي، بحيث تقرر أن الإسلام التاريخي هو إسلام الجماعة، أي من إنشاء المجموعة التي قامت في المدينة المنورة. ومن ثم، فإن هذه المجموعة هي وحدها المؤهلة لتأويل النص الديني الذي تم تمديده ليشمل بالإضافة إلى القرآن الكريم السُنة النبوية، كما جمعها الصحابة والتابعون ثم الفقهاء الوارثون لهم. ومع أن الإشكالات الأولى التي طرحت على الجماعة المسلمة، كانت في الواقع إشكالات سياسية، إلا أن التقليد السُني سعى إلى تحويل المعضلات السياسية إلى إشكالات فقهية قانونية تُعاد صياغتها من المنظور الكلامي، لتعطى في النهاية قالباً ميتافيزيقياً عبر القوالب المنطقية. وما لا يقوله "العروي" صراحة، لكنه يلمح إليه ضمنياً، هو أن ما يقال من انعدام المؤسسة الدينية في الإسلام (على عكس اليهودية والمسيحية) لم يكن حافزاً مسهلًا للإصلاح والتجديد، بل إن الإصلاح في التقليد الإسلامي يبدو ممتنعاً لأسباب جوهرية تحيل في مجموعها إلى التماهي الأصلي بين الدين والسُنة، وما أفضى إليه من تكريس سلطة الفقيه المرجعية. وما يهم في كلام العروي هو أمران أساسيان: أولهما: مسار تشكل النظام المعرفي الإسلامي، بالالتفاف على القضايا السياسية المتعلقة بالصراع الداخلي، الذي مزق الأمة لتفريغها عبر المسالك القانونية والكلامية. وهكذا يتحول الدين إلى مؤسسة قضائية قبل أن يصبح منظومة ميتافيزيقية. ثانيهما: غلبة منطق الجماعة في تشكل الدين على منطق النص والعقيدة، أي بعبارة أخرى، التحكم في إشكالية تتنوع مستويات التأويل والدلالة ببلورة أطر ضابطة لقراءة النص من خلال سلطة الخليفة -الفقهاء الوارثون للنبي-. قد يكون العروي سبق إلى تفصيلات هذين الرأيين، لكنه بالتأكيد لم يسبق إلى التأليف بين هذه الأفكار في إطار رؤية تركيبية متكاملة لإشكال السُنة والإصلاح. إنما يستدعي النقاش في هذه المقاربة هو القول بأن التقليد السُني استطاع بالفعل بناء أرثوذوكسية مؤسسية مهيمنة كابحة لكل محاولات الانشقاق والتصدع داخل النسق الإسلامي. والواقع أن التقليد السُني لم يتشكل تلقائياً أو بطريقة منتظمة واعية، وما كان نتاج مشروع فئة أو مجموعة بعينها، وإنما تكون بالتدريج وعبر قطائع وتموجات معقدة، لا تزال تستدعي التحقيب المعرفي الدقيق (على الرغم من بعض المحاولات الأخيرة الجادة). وإذا كان من الصحيح أن فكرة الارتباط العضوي بين النص حفظاً وتأويلًا، والجماعة المسلمة برزت في بدايات الإسلام الأولى، إلا أن هذه الفكرة لم تولد تلقائياً القوالب الفقهية والكلامية الناظمة للطائفة الكبرى التي أطلق عليها من بعد "أهل السُنة والجماعة". وبما أن الخروج من مأزق الفتنة والحفاظ على بيضة الإسلام وأهله كان هاجساً قوياً لدى النخب العلمية التي تشكلت من فقهاء الأمصار في النصف الثاني من القرن الأول الهجري، فمن الأصح القول إن هدف الفقهاء المؤسسين للتقليد السُني لم يكن بناء سلطة دينية مهيمنة بقدر ما كان تحرير الدين من التوظيف الأيديولوجي في الصراع السياسي القائم، بالفصل بين مسألة الإيمان والعمل من جهة، وبين مقتضيات الانخراط في الدين والولاء للطائفة من جهة أخرى. والدليل على هذا الاستنتاج أن فقهاء السُنة الأوائل خاضوا صراعاً مريراً (ودامياً أحياناً) على جبهتين: ضد الشيعة في قولهم بالعصمة والوصية الذي يفضي إلى تحويل الإمامة إلى مستوى العقيدة، وضد الخوارج في مزجهم بين العقدي والسلوك وتكفيرهم لصاحب الكبيرة الذي يخرج جمهور المؤمنين من الدين. كما خاضوا صراعاً مماثلًا ضد الحكام في محاولتهم افتكاك سلطة مؤسسية دينية بحجة خلافتهم للنبي المشرع. ولم يتبن التقليد السُني منذ البداية موقفاً إجماعياً من موضوع الأسس المرجعية للتشريع، على عكس الصورة التي يقدمها لنا العروي في كتابه المتميز. فمنزلة السُنة في النسق المرجعي الفقهي لم تكن محسومة مسبقاً، والدليل هو الخلاف القائم بين كبار أئمة السُنة (بمن فيهم أئمة المذاهب الأربعة) بين حدي النص المسنود، ولو كان حديث آحاد والرأي والاستحسان ولو خالف صحيح المنقول. وما يُقال عن تأسيس الشافعي لمنهج أصولي سرعان ما أصبح الخريطة المنهجية لأهل السُنة (أطروحة الجابري) ليس بالدقيق. والواقع أن أصول الشافعي اصطدمت باعتراضات قوية في بدايتها، ولم تهيمن نسبياً إلا في عصر متأخر على يد كبار الفقهاء العراقيين في العهد السلجوقي، الذي شهد التشكل الفعلي لمفهوم "أهل السُنة والجماعة"بدلالته الفقهية الكلامية المكتملة (على يد الإمامين الجويني والغزالي). ولم تحل هيمنة العقيدة الأشعرية والأصول الشافعية دون بروز خطوط إصلاحية من داخل التقليد السُني في القرنين التاسع والعاشر، تكفي الإشارة هنا إلى الشاطبي في مجال الأصول وابن تيمية في الكلام وابن خلدون في السياسة... فالسؤال المطروح راهناً ليس هل يمكن للتقليد السُني أن يفرز ديناميكية إصلاحية، فالأمر بدهي تثبته الوقائع العينية، وإنما: ما هو سقف الإصلاح المنشود؟ فأكثر التيارات الأصولية انغلاقاً لا تمانع في مطلب الإصلاح الذي تتخذه أحياناً ذريعة لنسف جانب المرونة والتسامح في المدونة التراثية، بيد أن الإشكال الذي لا بد من حسمه هو: هل يمكن الحصول على ثمار الإصلاح الديني في التقليد المسيحي من داخل الآفاق التأويلية للمنظومة السُنية، أم أن هذا الإصلاح يقتضي حتماً دفع الاستحقاقات ذاتها التي دفعتها الأرثوذوكسية المسيحية؟ ليس من السهل الجواب عن هذا السؤال الذي يحيلنا بالضرورة إلى موجهات الإصلاح الديني المنشود التي تتمحور إجمالاً في موضوعات التنمية والتحديث، وما يرتبط بها من إشكالات بناء ثقافي ومنزلة الدين في الشأن العام ووظيفته التشريعية والقيمية... مما لا يتسع المقام لتفصيله.