ذهبت إلى العاصمة الكورية الشمالية بيونج يانج مرات عديدة ولأسباب مختلفة. لكنني كنت آمل في الوقت ذاته أن أكون عوناً للصحفيتين الأميركيتين المحتجزتين هناك، لورا لينج وإيونا لي، عندما كنت في بيونج يانج في وقت مبكر من شهر يوليو المنصرم. غير أني أدركت حينها أن معارفي وعلاقاتي في بعض الدوائر الحكومية هناك لن تكون كافية وحدها لتأمين إطلاق سراحهما. وكان مسؤولو بيونج يانج قد استشاطوا غضباً من تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون القائلة بعدم وجود أساس للاتهامات بحق الصحفيتين المعتقلتين. وتحت تأثير حدة الغضب تلك، أوشك المسؤولون على إرسال الصحفيتين إلى أحد سجون العمل الشاق. وبقي الأمل الوحيد لحماية الصحفيتين من الالتحاق بمعسكرات التعذيب هو أن يصدر الرئيس كيم جونج إيل عفواً عنهما. لكن المعضلة أنه ما من أحد في بيونج يانج يجرؤ على الإيعاز بإصدار عفو كهذا. من جانبها كانت إدارة أوباما في مأزق حرج للغاية. فهي ترغب في تأمين إطلاق سراح الصحفيتين المحتجزتين دون شك، لكن مع استمرار بيونج يانج في إطلاق صواريخها وامتناعها عن خفض طموحاتها النووية، لم يكن الوقت ملائماً لذهاب الرئيس أو أي من كبار أعضاء إدارته طالبين عفواً من الزعيم الكوري الشمالي عن الصحفيتين المعتقلتين. ومن الجانب الآخر كان واجباً على واشنطن ابتعاث شخصية تضمن حسن استقبالها من قبل الزعيم الكوري الشمالي كيم جونج إيل، بصفته المسؤول الوحيد الذي يستطيع إصدار عفو عن الصحفيتين. وكان يمكن أن نكتفي بهذا ونصفه بأنه انتصار عظيم لا يقدر بثمن. لكن أثر زيارة كلينتون يذهب إلى أبعد من مجرد إطلاق سراح المواطنتين المعتقلتين. فقد كانت علاقات أميركا بكوريا الشمالية متوترة عندما اتجه كلينتون إلى مهمته في بيونج يانج. فحينها كانت قد تعطلت الدبلوماسية البناءة نتيجة لردود أفعال إدارة أوباما إزاء ما رأت فيه تحدياً من بيونج يانج لإرادة المجتمع الدولي بإطلاقها للصواريخ واختبارها للأسلحة النووية واعتقالها مواطنتين أميركيتين... فاندفعت إلى التهديد بفرض مزيد من العقوبات عليها. وبالنظر إلى تجربة عقدين من الزمن، فإنه ليس من سبب واحد يدعونا للاعتقاد بأن في وسع الإجراءات العقابية أن تحدث أي تحسن يذكر في سلوك قادة بيونج يانج. صحيح أن أي عقوبات إضافية تفرض على كوريا الشمالية تجعلها أشد فقراً، لكنها في ذات الوقت تدفعها إلى مزيد من العناد. ومن الجانب الآخر، يدرك الخبراء المختصون في شؤون كوريا الشمالية، أنها كثيراً ما تطلعت إلى تحسين علاقاتها مع واشنطن. وهناك من المنتقدين داخل دوائر المحافظين الأميركيين من يرى أن كلينتون رضخ لاستئساد النظام الكوري الشمالي، وأن الزيارة نفسها ليست سوى مكافأة للزعيم الكوري على سوء سلوكه. لكن جميع هذه الانتقادات والتكهنات، ليست سوى هراء لا معنى له. صحيح أن كلينتون اعتذر عن عبور الصحفيتين للحدود الكورية الشمالية بطريقة غير قانونية، كما اعتذر عما نسب إليهما من قبل سلطات بيونج يانج حول قيامهما بنشاط معاد بتصويرهما لأعمال الاتجار بالبشر الجارية في تلك المنطقة الحدودية. غير أن ذلك الاعتذار لا يبرر مطلقاً وصفه بأنه مكافأة أو تعويض لأحد في كوريا الشمالية على سوء سلوكه! وخلال زيارتي الأخيرة إلى بيونج يانج علمت من بعض كبار المسؤولين هناك بأنهم كانوا في غاية الحذر من الضرر الذي ربما يلحق بصورة بلادهم الدولية، فيما لو طالبت الحكومة بتقديم أي فدية لها مقابل إطلاق سراح الصحفيتين الأميركيتين المحتجزتين لديها. كما كانوا على درجة كبيرة من الحساسية إزاء قسوة أحكام الرأي الدولي التي قد تصدر بحقهم في حال مطالبتهم بأي مقابل مادي أو عيني لإطلاق الصحفيتين. وهذه هي الحقيقة التي أكدتها لي كافة مصادري ومعارفي في بيونج يانج. وبعد فما الذي أنجزته زيارة كلينتون هذه؟ في تقديري الشخصي أن أهم إنجاز لها كونها تمكنت من كسر حاجز الجليد القائم بين بيونج يانج وواشنطن. ذلك أن الزيارة مهدت الطريق أمام تفاوض ثنائي محتمل بين قيادتي البلدين. وبدا واضحاً الآن أن بيونج يانج تبدو أكثر استعداداً لاستئناف المفاوضات السداسية، شريطة أن تبدأ حواراً مباشراً ثنائياً بينها وواشنطن. وفي الوقت نفسه بدا محتملا إجراء تفاوض ثنائي إقليمي بين كوريا الشمالية وكوريا الجنوبية. هذا وقد أثبتت التجارب العملية أن الاستمرار في سياسة إدارة بوش السابقة، والتعامل مع بيونج يانج على أنها ضلع من محور الشر، ومن ثم حرمانها من أي فرصة للتفاوض معها، لم يعد مجدياً في بناء أي علاقات أو حل أي نزاعات معها. وبعد أن كسرت زيارة الرئيس الأسبق كلينتون حاجز الجليد هذا، فإنه على إدارة أوباما أن تمضي قدماً نحو التفاوض المباشر مع قادة بيونج يانج. وفي هذا التفاوض ما يقنع الأخيرة بالجلوس مجدداً إلى طاولة التفاوض السداسي. هان إس. بارك أستاذ العلوم السياسية ومدير مركز دراسة القضايا العالمية بجامعة جورجيا ينشر بترتيب خاص مع خدمة \"لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست\"