من يتابع التقدم الاقتصادي الذي تحققه الصين يصاب بالدهشة والإعجاب في الوقت نفسه، إذ يبدو الأمر وكأن الصين قد تحولت الى "ورشة عمل للعالم" فالشركات الصناعية والخدماتية من كافة أرجاء الأرض تتقاطر على هذا البلد منذ سنوات، بل إن صناعات وماركات عريقة انتقلت إلى الصين من بلدانها الأصلية.
أينما تواجدت في أسواق العالم، بما في ذلك البلدان الصناعية المتقدمة، فستجد حضورا قويا للمنتجات الصينية وبعلامات تجارية عريقة تتميز بجودة عالية وبأسعار تنافسية.
لماذا الصين؟ وكيف حدث ذلك في بلد منغلق حتى سنوات قليلة مضت؟ وما هو الدافع لهذا التهافت على السوق الصينية من قبل الاستثمارات الأجنبية؟ والتي ساهمت بصورة فعالة في نمو الاقتصاد الصيني بمعدلات عالية لم تصلها الاقتصادات الصناعية الأخرى في العالم على مدى سنوات العقد الماضي.
هناك العديد من العوامل التي ساعدت على هذا التغيير المهم في العلاقات الاقتصادية الدولية، منها عوامل سياسية واقتصادية وهيكلية، وبالأخص سقوط نظام القطبين والذي ساد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والعولمة الاقتصادية التي أتاحت انفتاحا لا سابق له لحرية الأسواق وحركة رؤوس الأموال في العالم وتوجهات الصين الرامية لإعادة هيكلة اقتصادها للتأقلم مع هذه المستجدات وتسخيرها لخدمة نموها الاقتصادي.
وفيما عدا العامل الأخير المتعلق بإعادة الهيكلة الاقتصادية، فإن العاملين الأوليين والخاصين بنظام القطبين والعولمة ينطبقان على كافة بلدان العالم تقريبا، إلا أن للصين خصوصيتها، وذلك لاعتبارات عديدة.
وفي هذا الصدد يمكن الإشارة إلى مسألة لا زالت محل جدل بين الاقتصاديين، ففي الصين تتوفر عمالة رخيصة وماهرة، عمدت الشركات الأجنبية، وبالأخص الغربية إلى الاستفادة منها بصورة كبيرة، ما أدى إلى انتقال الكثير من الصناعات إلى الصين.
وإذا ما نظرنا إلى الإنجازات التي حققتها النمور الآسيوية في الثمانينيات من القرن الماضي، فإننا سنجد أن الأيدي العاملة الرخيصة في بداية الانطلاقة التنموية شكلت أحد أهم الأسس للنمو الاقتصادي اللاحق والذي أدى إلى ارتفاع الأجور وتحسين مستويات المعيشة في هذه البلدان.
يثير ذلك سؤالا يتعلق بتوفر الأيدي العاملة الرخيصة في الكثير من بلدان العالم، كالهند وباكستان وبلدان أميركا اللاتينية وأفريقيا، إلا أن المفارقة هنا هي أنه تتوفر في الصين أيدٍ عاملة مؤهلة ومدربة تدريبا جيدا، كما تتوفر بأعداد كبيرة مؤهلات نادرة في مجالات الهندسة والعلوم التطبيقية والاقتصاد وتقنية المعلومات، حيث ساهم نظام التعليم وإلزاميته وتطوره على مدى السنوات الخمسين الماضية في تزويد السوق بهذه الوفرة من الكفاءات، وهو ما لا يتوفر في البلدان الأخرى المشار إليها آنفا.
هذا المزج بين التكنولوجيا ورؤوس الأموال الغربية والأيدي العاملة المدربة والرخيصة والمؤهلة تأهيلا عاليا والمدعومة بانفتاح اقتصادي على مختلف الاقتصاديات العالمية يشكل الأساس القوي الذي تبنى على أساسه الصين الحديثة الملتزمة بتحرر الأسواق والمبتعدة عن النهج الاقتصادي السابق القائم على المركزية والبيروقراطية، حيث يتوقع معظم المحللين أن تصبح الصين القوة الاقتصادية الأولى في العالم في عام 2050 ، وربما قبل ذلك إذا ما استمرت وتائر النمو على ما هي عليه الآن.
لا يبدو ذلك مستغربا، بل إن هناك العديد من الشواهد التي تؤيد مثل هذا الاستنتاج، فالنمو الاقتصادي الصيني يعتبر الأعلى في العالم خلال السنوات العشر الماضية وبمعدل نمو تراوح بين 9-12% سنويا، كما أن الصين تحتل موقعا متقدما في مجال جذب الاستثمارات الأجنبية، وبالأخص الأوروبية واليابانية والأميركية.
في جانب آخر، فإن الصين بدأت تحتل مكانة مرموقة في التجارة الدولية، مستفيدة في ذلك من انفتاح الأسواق وتحررها، فعلى سبيل المثال احتلت الصين ولأول مرة المرتبة الأولى في التجارة الخارجية لدولة الإمارات في العام الماضي، بعد أن تربعت اليابان على هذا المركز لسنوات طويلة.
التجربة الصينية تستحق الدراسة للاستفادة منها لتنمية الاقتصاديات النامية، بما فيها الاقتصاديات العربية، حيث قدم تقرير التنمية الإنسانية الاخير صورة للتعليم في البلدان العربية لا تتلاءم مع المستجدات العالمية ومع التوجهات التنموية لهذه البلدان.