تطالعنا فصول التاريخ البشري بشتى أنواع التعذيب والعذابات الإنسانية فرغم اختلاف الأديان والثقافات، اتسم التعذيب بسمة عالمية تجاوزت الأزمنة والأمكنة، فكانت مسـألة انتهاك حرمة النفس والجسد فعلا إن لم يكن مقبولا بالطبع فليس مرفوضاً أو مستنكراً. فعلٌ كان ومازال ممارسة طبيعية للسلطة السياسية ولحركات المعارضة، فالإعدامات المبتكرة من قتل وحرق وقطع الرقاب تقع على قارعة الطريق، وتعليق الرؤوس على أبواب المدن والخوازيق أساليب تعذيب راكمتها البشرية، مضيفة عليها أساليب وفنون تعذيب جديدة. لم يكن التكتم على التعذيب قاعدة إلا مع تطور البشرية فكان التعذيب يمارس في الساحات العامة والمعارضون يسحلون وتعلق وتوزع أجسادهم على بوابات المدينة، كانت لعبة القوي وممارسة للسلطة السياسية. ومن الإشهار إلى الكتمان انتقل فعل التعذيب إلى السجون خلف الأبواب المغلقة والأقبية المعتمة منذ قرن فقط أو يزيد، كان التعذيب ظاهرة ولم يكن إشكالية أبداً.
تعدى التعذيب تاريخيا الحدود الجغرافية وتنوعت أساليبه وابتكارات الجلادين، ومن الرؤوس التي أينعت في زمن الحجاج إلى حفلات العري في الزمن الأميركي، مرورا بالبزات البرتقالية الصارخة لسجناء "جوانتانامو" وغيرها وغيرها. صور عدة لفعل واحد: انتهاك حرمة النفس والجسد. التعذيب، لكن لماذا التعذيب؟. ولمَ لم يظهر أي رد فعل مناهض للتعذيب حتى سبعينيات القرن المنصرف؟ لمَ كان الاستثناء فعلا طبيعيا لا طارئاً؟
تعرف معاهدة مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984 التعذيب بأنه "أي عمل ينتج عنه ألم أو عذاب شديد، جسديا كان أم عقليا، يلحق عمدا بشخص ما بقصد الحصول من هذا الشخص،على معلومات أو على اعتراف، أو معاقبته على عمل ارتكبه أو يشتبه في أنه ارتكبه أو تخويفه أو إرغامه... يحرض عليه أو يوافق عليه أو يسكت عنه موظف رسمي أو أي شخص يتصرف بصفته الرسمية ". أول إدانة رسمية وجماعية للتعذيب صاغت المعادلة بين الجلاد والضحية، مجرماً كان أم بريئا، ومن جديد لماذا استمر التعذيب قرونا بدون إدانة؟. ببساطة شديدة لأن الجلاد لا يرى الإنسان بل الفرد: المعارض السياسي، المجرم، باختصار أشد الشيطان. وعلى الضفة الأخرى فالجلاد هو منفذ القانون هو يد السلطان وباسم الأمن هو الملاك الحارس. هذه الثنائية هي التفسير المنطقي الوحيد لسلسلة العذابات التي مرت بالبشرية.
تطرح صور عذابات أبو غريب، ومن قبلها قصص السجون العربية التعذيب كظاهرة وإشكالية معاصرة. فالتعذيب ليس قضية ثانوية نغض الطرف عنها نتعايش مع قصصها وتمضي حياتنا. وبالتأكيد لا نريد انتظار قرن جديد لتظهر من داخلنا حركة شعبية مناهضة للتعذيب، وكما كان التعذيب الأميركي صدمةً، فالتعذيب العربي مستنكرٌ أيضاً. وكما فتحت وسائل الإعلام أبوابها لمعذبي أبو غريب، لتفتح الأبواب أيضا لمعذبي السجون العربية. لكن وبمنتهى الواقعية نقر بالحساسيات العربية التي يثيرها موضوع التعذيب فالشكوى على الغريب دائما أسهل من الشكوى على القريب فمجرد الحياة خارج السجون العربية إنجاز بحد ذاته.
لنقر بأن التعذيب أيا كان شكله ليس أكثر من جريمة تبررها خدعة، فمعادلة الجلاد والضحية قد تنقلب في أي لحظة، فإذا لم نقر بمناهضتنا المطلقة لانتهاك حرمة النفس والجسد، سيجد الجلادون غالبا مبررات للتعذيب باسم الأمن باسم الوطن باسم الدين أو الملك، لكن هذه التبريرات أكبر من قدرتنا الأخلاقية على احتمال فكرة التعذيب كفكرة، لنعتبر عذابات أبو غريب بداية الطريق، ولتتسع رقة الرفض الاجتماعي لكافة أشكال التعذيب الواضحة والمستترة النفسي قبل الجسدي. أخرجت صور أبو غريب التعذيب من المنطقة الرمادية في وعي الشعوب قبل مثقفيها. لابد من الاعتراف بالإنسان كقيمة عُليا، وأن له ذاتاً وكرامة وحقوقاً فالفرد ليس مجرد رقم في إحصائية.
هي دعوة لمناهضة جميع أشكال التعذيب، وتفعيل لغة القانون، دعوة لإرساء أسس ثقافة احترام الإنسان وكرامة الإنسان كقيمة عُليا، مجرما كان أم بريئا الرفض المطلق للانتهاكات النفسية والجسدية أي حرمة الإنسان.