قذفت إلينا موجة معركة الكتب الدائرة في أميركا كتاباً آخر يوجه صفعة أخرى ليس فقط إلى إدارة بوش بل إلى ما يصفه جون دين بـ"الغباء الجماعي" الأميركي. وجون دبليو دين هو المستشار القانوني للرئيس ريتشارد نيكسون بين 1970 و1973، ومؤلف هذا الكتاب "أسوأ من ووترغيت" الذي أردفه بعنوان فرعي ليس أقل قوة وهو "الرئاسة السرية لجورج دبليو بوش" ليتعزّز موضوع الكتاب المثير بصورة غلاف معبّرة يظهر فيها الرئيس بوش في المقدمة ونائبه تشيني في الخلفية، أي الخلفية المتقدمة إن جاز التعبير.
وهناك كثيرون، ومنهم إدوارد لازاروس رجل القانون والمسؤول السابق في المحكمة العليا الأميركية، لم يقتنعوا بأن الرئاسة الحالية أخطر من رئاسة نيكسون. لكن المؤلف حقق غرضه الأوسع والأهم وهو إثارة اهتمام القارئ بحيوية الديمقراطية والاتجاه الذي تمضي عليه الزعامات الأميركية.
كان دين مطلعاً على بواطن الأمور أثناء فضيحة ووترغيت التي عصفت بإدارة نيكسون، وكان نجم شهود التحقيقات في التنصُّت على أعضاء الحزب الديمقراطي بأوامر من البيت الأبيض الذي يحكمه نيكسون. ويقدم دين في كتابه ما يؤكد أن البيت الأبيض في الإدارتين اتصف بـ"خصلتين أولاهما الهوس بالسّرية وثانيتهما الولوع بالغش"، وهما من أهم عوامل تآكل الديمقراطية. ويقول دين إن إدارة بوش "خلقت بيتاً أبيض يخفي نقاط ضعف الرئيس ونقاط قوة نائب الرئيس". وأوضح دين أن في ذلك وصفة ناجحة لتحويل الحكومة "المسؤولة بالإسم فقط، إلى حكومة ليست عرضة للمساءلة أمام مواطنيها".
ومن بين الأدلة الكثيرة التي يسوقها دين، يطالعنا موقف إدارة بوش في قضية المعتقلين في غوانتانامو، والجهود المحمومة التي بذلها تشيني للحفاظ على سرّية أعمال شركات الطاقة التي أدارها وقيل إنها ترتبط بتبرعات لحملة بوش الانتخابية، إضافة إلى إخفاء الإدارة لمعلومات عن لجنة التحقيق في هجمات 11 سبتمبر.
ويتقصَّى دين منهج السّرية لدى الثنائي بوش- تشيني ليوضح أنه بدأ قبل "استيلائهما على البيت الأبيض" بزمن طويل. ومن ذلك أن الجمهور مازال يجهل قصة الصفقات التي حققت لبوش، إلى جانب الثراء الأسري، ثروات مستقلة. وقد لا يكون هناك شك في أن رداء السرّية هو ما ساعد بوش على الفوز بالرئاسة، وهو "التكتيك ذاته الناشط في سعي بوش إلى إعادة انتخابه". وقد سيطر بوش على تدفق المعلومات من البيت الأبيض، وعمد هو وأعضاء فريقه إلى إحاطة أنفسهم بـ"مسربي معلومات متحمسين" وأبعدوا الصحافة فبرهنوا على أنهم "أساتذة في اختلاق الأساطير الرئاسية".
لكن الاتهام الثاني بتعمد الغش والتضليل، يفاجئ القارئ بـ "اتساع نطاق الخداع ووقاحة استعداد الإدارة للتضليل". ويتراوح نطاق السرد هنا ما بين تلفيق المعلومات الاستخباراتية لتبرير الحرب على العراق، وإنكار تشيني لوجود ارتباطات بين شركة هاليبرتون المتعاقدة مع الجيش الأميركي في العراق وأرقام التكاليف المضللة التي قدمها بوش بخصوص إصلاح برنامج الرعاية الطبية، وصولاً إلى المبررات الكاذبة المتعلقة بتقليص ميزانيات حماية البيئية.
ومن المنطقي أن يقول دين إن البيت الأبيض في عهد إدارة بوش بات أسوأ مما كان أيام فضيحة ووترغيت التي اتُّهم فيها نيكسون بإساءة استخدام السلطة. لكن الأهم هنا هو أن منهج سرّية إدارة بوش خلق بيئة مضت فيها الأخطاء والتجاوزات دون أن تواجه تحدياً، بل ودون أن تكون ملحوظة في معظم الحالات. وقد يكون سبب ذلك أنهم "متعصبون مقتنعون ومؤمنون بحكمتهم، وغافلون ليس فقط عمّا يفكر فيه الأميركيون بل عن آراء العالم كله". ولذلك أطلق دين رأيه الصارخ في وجه هذه العصبة وقال "لم يكن لدينا في أي يوم من الأيام حكام من أمثال بوش وتشيني، وهما الرجلان اللذان بلغت قوة هوسهما بالتلفيق والسيطرة على المعلومات حداً جعلهما على استعداد لتقويض العملية الديمقراطية في سبيل مكاسبهما السياسية الشخصية قصيرة المدى".
ويكشف دين عن ولع إدارة بوش وإدارة نيكسون بصورة شخصية الرئيس وتفضيلهما لها على المصلحة العامة. لكن تحليل شخصية الرئيسين يكشف عما هو أكثر إثارة للقلق، فكلاهما في رأي دين استعان بالسرية والكذب المتعمد والتعتيم ليبتعدا عن الرئاسة إلى حد ما بغية الحصول على حصانة من عواقب ممارساتهما. وبوش هنا مثل نيكسون، يلعب دور الرئيس، فيشير إلى نفسه بأنه الرجل الثالث، وكأنه ليس شخصياً عرضة للمساءلة عن قراراته. و"عندما يفصل الرئيس نفسه عن ممارساته الرسمية، يكشف ذلك عن خوف من اقتران اسمه وهويته بتلك الممارسات ومن تحمل المسؤولية رسمياً لكن مع تفاديها في السر".
لكن الاختلاف الأساسي بين هاتين الرئاستين يكمن في هوية نائب الرئيس. والأهم هنا هو تطرق دين إلى تحليل شخصية تشيني، الرجل الذي يبدو أنه "يجد نوعاً من المتعة في السلطة التي كانت لدى زعماء الحرب في العصور الوسطى"، وهو كبير مهندسي أسلوب الحكم النيكسوني الجديد الذي صيغ على مثال حقبة ما قبل ووترغيت التي تميزت بسلطة رئاسية لم تجد ما يتحداها؛ و"ما يميز بوضوح ه