من المفارقات التي تستحق التأمل أن الدولة الصهيونية، التي تدعي أنها "دولة يهودية" وممثلة لليهود أينما كانوا هي نفسها الدولة الوحيدة في العالم التي تواجه مشكلة في تعريف اليهودي، ومن ثم يبدو الحديث عن "طابعها اليهودي" وعلاقتها بيهود العالم لغواً غير ذي معنى. فما زالت قضية "من هو اليهودي؟" بلا حل حاسم، سواء على المستوى الرسمي للدولة الصهيونية أو على مستوى التنظيمات الصهيونية المختلفة. ولا تكف تداعيات هذه القضية عن الظهور من آونة لأخرى في شتى مجالات الحياة، وحتى وإن كان الأمر يتعلق بالدفن والمدافن. وقد أثار "يوري أفنيري"، حينما كان عضواً في الكنيست، مسألة التفرقة التي تمارسها الدولة في دفن الجنود الإسرائيليين الذين يسقطون أثناء القتال، إذ يُدفَنون دون تمييز في بادئ الأمر، ثم تقوم دار الحاخامية سراً بغرس شجرة أمام القتلى الذين لم تعترف الحاخامية بيهوديتهم، حتى يتم عزلهم عن بقية المدفونين.
كما أُثيرت قضية بخصوص جثة "تيريزا أنجليلوفيتش"، وهي مستوطنة صهيونية هاجرت من رومانيا مع زوجها إلى إسرائيل حيث تُوفيت ودُفنت في مقابر اليهود، إلا إن جثتها اختُطفَت فيما بعد لدفنها في مقبرة منفصلة، لأنها لم تتهوَّد بالطريقة المعتمدة لدى الحاخامية. وفي نهاية المطاف، أُعيد دفنها في مقابر اليهود. وفي أعقاب هذه الحادثة، تقدمت عضوة الكنيست "شولاميت أولاني" باقتراح يقضي بإنشاء مقابر لليهود العلمانيين مستقلة عن مقابر المتدينين.
ومن الأمثلة الصارخة على انعكاسات قضية "من هو اليهودي؟" في مجال الدفن والمدافن حالة المهاجر السوفييتي "نيقولاي رابابورت" الذي رفضت السلطات دفنه في المدافن اليهودية بعد أن وقع صريعاً في جنوب لبنان، وكان يبلغ من العمر 23 عاماً، وكان قد استوطن في فلسطين المحتلة أوائل التسعينيات مع أبيه الذي يبلغ من العمر 62 عاماً، وأخته التي تصغره بعام واحد. وقد قال أبوه عندما سمع بخبر مصرعه "إنني أحضرت زهرة عمري إلى إسرائيل، وعلي الآن أن أدفنه. لا مستقبل لي الآن. وسيدفن مستقبلي في تربة روسيا، إذ إنه لن يجد مقبرة في إسرائيل فأمه ليست يهودية، وبالتالي فهو حسب اليهودية الأرثوذكسية، ليس يهودياً، ولهذا لا يحق له أن يُدفن مع أعضاء الشعب المختار".
وكانت أسرة "رابابورت" تعيش في مستوى معيشي منخفض يبعث على الشفقة، حيث كانوا يقيمون على قطعة من الأرض، في فناء قذر، لا سقف له ولا نوافذ. واستخدموا بعض الألواح الخشبية لتكون بمثابة سقف وسرير. وقد علقت صحيفة "هآرتس" على وضعهم هذا بقولها:"أين هي الصهيونية: يهودي يهاجر إلى إسرائيل، ويعيش في العراء ويموت في لبنان ثم تُرسل جثته إلى روسيا بدون أي احتفال، وكما قال أحد المعلقين:"إن مئة عام من الصهيونية قد حملت في النعش الذي حمل جثة رابوبورت".
ولم يتعرض أي من المعلقين الإسرائيليين للأسئلة المنطقية الإنسانية التي تثيرها مثل هذه الواقعة، ومنها مثلاً: لماذا تشجع الدولة الصهيونية بعض المواطنين المشكوك في يهوديتهم في الاتحاد السوفييتي السابق وغيره من البلدان على الهجرة إلى فلسطين والاستيطان فيها، بينما تنكر هذا الحق على فلسطيني ترك منزله تحت ضغوط مختلفة (مثل الإرهاب العسكري والاقتصادي والسياسي الصهيوني)؟ ألا تُعد مثل هذه السياسة سياسة إرهابية؟ وماذا كان "رابابورت" يفعل في لبنان؟ هل كان يدافع عن الشعب اليهودي؟ أم يحاول اغتصاب مزيد من الأرض العربية؟ وبماذا يُوصف رد المقاومة اللبنانية عندما تصدت له وأردته قتيلاً؟ فهل يُعتبر دفاعها عن أرضها وعن حرية شعبها فعلاً من أفعال الإرهاب أم نوعاً مشروعاً من أنواع المقاومة؟.
وقد أطلت القضية برأسها من جديد عندما تقدمت إحدى أمهات الجنود الإسرائيليين الذين قُتلوا في لبنان بطلب إلى السلطات من أجل إزالة عبارة "عملية السلام من أجل الجليل"، وهو الاسم الرسمي للغزو الإسرائيلي للبنان، من فوق شاهد قبر ابنها. وقد أشارت الأم في دعواها إلى أن ما حدث في لبنان لم يكن عملية بل كانت حرباً، كما أنها لم تكن عملاً من أجل السلام ولم تحقق أي نوع من السلام. وتمسكت الأم بأن ابنها لم يسقط في الجليل وإنما في لبنان، وطلبت تغيير التاريخ المكتوب على قبر ابنها من التاريخ العبري إلي التاريخ "الجريجوري"، وقد وافقتها المحكمة على طلبها هذا.
ومن جهة أخرى، تحولت المدافن إلى حلبة أساسية للصراع بين أعضاء الجماعات اليهودية في أميركا اللاتينية. فالإشكنازي الذي يتزوج سفاردية لا يمكن أن يُدفَن في مدافن السفارد، كما أصبحت السيطرة على المدافن من أهم مظاهر الهيمنة الحاخامية في أميركا اللاتينية، وهو الأمر الذي حدا بأحد الباحثين إلى القول إنه إذا كانت الكنيسة الكاثوليكية تؤكد أنه لا خلاص للمسيحي خارج الكنيسة، فإن المؤسسة الحاخامية تقرر أنه لا خلاص لليهودي خارج مدافن اليهود!. وقد بدأ الوضع يتغير قليلاً في الآونة الأخيرة مع تزايد معدلات العلمنة، مما أدى إلى التخفيف من حدة التوتر بشأن هذه القضية، حيث لم يعد كثير من أعضاء الجما