كثيرا ما يقال هذه الأيام، إن العرب لم ينحدروا في تاريخهم المعاصر إلى درك مثل ذلك الذي انحدروا إليه الآن. فالعرب لم يثبتوا فقط عجزهم عن منع الاحتلال العنيف على الطراز الاستعماري في العراق وفلسطين، ولكنهم أثبتوا أيضا عدم قدرتهم على أن يجعلوا أنفسهم متميزين في أي مجال من مجالات الحياة الأخرى.
فباستثناءات قليلة - جديرة بالذكر- معظمها في دول الخليج، فإننا نجد أن معدلات النمو الاقتصادي العربي تعتبر من أقل المعدلات في العالم. وأن الاستثمارات الأجنبية التي تصب في اقتصاد العالم العربي تكاد لا تذكر، وإنجازاته العلمية تكاد لا توجد، وتعليمه متخلف إلى حد كبير، والدخول إلى الإنترنت لسكانه لا يزال نادرا، وحقوق الإنسان به تتعرض للانتهاك على نطاق واسع، والديمقراطية به غائبة فعليا، ومظاهر عدم المساواة متفشية، والمرأة مقهورة، والإصلاح متوقف، والقيادة السياسية قاصرة عن الفعل، وبدون أسنان.. أما التضامن العربي فهو سراب. باختصار يمكن القول إن قائمة نقاط الضعف العربية تبدو لا نهائية.
المجال الوحيد الذي يتألق فيه العرب هو المجال الديمغرافي، الذي يحققون فيه معدلات للنمو تعتبر ضمن أعلى المعدلات في العالم. وإن كان ذلك يمكن أن يعتبر في حد ذاته أكبر مصدر من مصادر الضعف على الإطلاق.
إن معظم ما قلناه صحيح. بيد أنه لا يمثل القصة بأكملها بأية صورة من الصور. ففي الحقيقة أنه من الممكن جدا للمرء أن يذهب إلى القول إن العرب بملايينهم العديدة يمرون حاليا بحالة يقظة، أو نهضة، أو تخلص من العادات القديمة، وتعطش للتغيير.
فلم يحدث في أي وقت من قبل أن كان هناك هذا القدر من الحديث عن الحاجة إلى التغيير. ولم يحدث في أي وقت من قبل أن تمكنت محطات التلفزة الفضائية العربية من الوصول إلى هذه القطاعات الواسعة من جماهير المشاهدين، ولم يحدث في أي وقت من قبل أن تمكنت تلك الفضائيات من نقل مشاعر عدم الصبر والإحباط والمطالبة بالتجديد الذي تنادي به الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج.
فإذا كان صحيحا أن المجتمع العربي قد غدا ضعيفا، فإن الصحيح أيضا هو أنه لم يحدث من قبل أن كان هذا المجتمع على هذه الدرجة من الوعي المؤلم بضعفه، وهو ما يعتبر في حقيقته شرطا مسبقا لليقظة والانبعاث.
وفي الحقيقة أنه قد يأتي وقت يتم فيه النظر إلى الأحداث الرهيبة التي تجري الآن في العراق وفلسطين، ليس باعتبارها التجسيد الأقصى للانحطاط العربي، ولكن باعتبارها نقطة التحول، التي قام عندها العرب، بحشد قواهم والانقلاب على قاهريهم.
فالمقاومة البطولية في الفلوجه والنجف وجنين ورفح وأماكن كثيرة غيرها، هي بالتأكيد دليل على أن العرب في بدايات القرن الحادي والعشرين، غير مستعدين للخضوع لتجربة استعمارية جديدة. فهم يرفضون ذلك تماماً ومستعدون للموت دفاعاً عن استقلالهم.
إن حاضر العرب يختلف تمام الاختلاف عن ماضيهم، وتحديدا عن سنوات العشرينيات من القرن الماضي. عندما كانت فرنسا وإنجلترا قادرتين على تقطيع الولايات العربية التي كانت تابعة للإمبراطورية العثمانية، واقتسام الغنائم بينهما.
ففي العراق يسعى الأميركيون والبريطانيون في الوقت الحاضر إلى استراتيجية خروج بعد أن اتسعت المقاومة ضدهم، وبلغت مدى لم يتوقعوه على الإطلاق وبعد أن أصبح يتأكد لهم يوما بعد يوم أن كلفة الاحتلال باهظة للغاية.
إن الرأي الذي كان يتبناه القطاع الأكبر من الرأي العام الأوروبي هو أن الحرب على العراق كانت خطأ إجراميا.. وعلى ما يبدو فإن هذه الرؤية تكسب أرضا جديدة في الولايات المتحدة في الوقت الحاضر. أما قائدا تحالف الحرب الرئيس جورج بوش، ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير، فهما يجدان نفسيهما الآن في عزلة تتزايد يوما بعد يوم، كما يجدان أن شعبيتهما وسلطتهما تتعرضان إلى التآكل، وأنهما قد يجدان نفسيهما مضطرين إلى دفع ثمن باهظ في الانتخابات المقبلة التي ستجري في شهر نوفمبر المقبل في الولايات المتحدة، وفي العام القادم في بريطانيا.
وفي إسرائيل أيضا، وبعد ثلاث سنوات من العنف الذي لا معنى له من جانب رئيس الوزراء أرييل شارون، بدأ الرأي العام هناك يفهم أن الاحتلال، والاستيلاء على الأراضي، وبناء المستوطنات، وذبح الفلسطينيين، وتدمير مجتمعهم هي كلها أنشطة محكوم عليها بالفشل. فالفلسطينيون من ناحيتهم لن يستسلموا، كما أن إسرائيل لم يسبق لها أن عانت من قبل من عزلة عن العالم مثل التي تعاني منها في الوقت الحاضر، كما أنه لم يسبق لسياساتها الوحشية أن تعرضت لما تتعرض له في الوقت الراهن من إدانة.
إن الاحتلال عملية ذات اتجاهين. فهي تتطلب قدرا من القبول السلبي من جانب المستعمَر، كما تتطلب في الوقت نفسه عدواناً متغطرساً من جانب المستعمِر. أما ما نشاهده اليوم فهو أن هذه العملية يجري تقويضها في الاتجاهين: فالمُستعمَرون لم يعودوا سلبيين كما يفترض، كما أن المُستعمِرين قد غدوا نهباً للشك بدلا من الغطرسة.
والسبب الذي يجعل الشعوب الأوروبية تشعر في الوقت الراهن ب