لاحظنا في الآونة الأخيرة أن أساليب تقديم البرامج الدينية قد تطورت نحو الأفضل، وخرجت المواضيع إلى فضاءات الحياة الرحبة، ما أكسبها الشمولية والعمق. ولذلك جذبت جمهوراً كبيراً من المشاهدين، وبثت قيماً جديدة، ما كان علماؤنا -هداهم الله- يتناولونها، حيث كانوا يركزون على الوعظ الذي يشمل الترغيب والترهيب، والعبادات والتاريخ والسير، دون الالتفات إلى السلوكيات. علماً بأن العبادات لابد وأن تتجسد في سلوكيات يتخلق من خلالها خلق المسلم، وهو غاية العبادة. إننا نعتقد أن التطور التكنولوجي، وزيادة وعي الجمهور، إضافة إلى سعة الصدر، والبحث عن قوالب جديدة من البرامج كانت أسباباً مهمة لظهور البرامج الدينية في ذلك الشكل الجديد. ولكن توجد بعض الأسباب التي يمكن ملاحظتها في الآتي: 1- شعور المحطات الفضائية برتابة البرامج الدينية ووعظيتها المكررة. وجنوح بعض المشايخ والمقدمين إلى لغة التهديد والوعيد، ولكأن القيامة ستقوم الساعة. وصار أن تم نقل أحاديث المسجد إلى الشاشة. ونحن نعلم أن للشاشة مميزات وأساليب -حددها القائمون على الاتصال من علماء الإعلام قبل أن يصل التلفزيون إلى العالم الإسلامي بأكثر من مئة عام- ذلك أن البرنامج لو غابت عنه تلك المميزات والأساليب سيبعث الملل والسأم في نفوس المشاهدين، وسيتحولون إلى محطات أخرى. 2- سأم المشاهدين من التكرار! حيث تربت أربعة أجيال على خطب عذاب القبر والجنة والنار وعقاب تارك الصلاة، وقضايا الحيض والنفاس، في الوقت الذي تم التغافل فيه عن قضايا جديدة برزت ضمن التطور الحضاري للأمم، مثل تعامل الإنسان مع الآخر- في ظل العلاقات الدبلوماسية والتشريعات التي ألغت الانحياز العرقي وكافحت العنصرية بكافة أشكالها. وكذلك أن القيم الإسلامية الحقيقية لم يتم تناولها أو كانوا يتحاشونها، مثل: المحافظة على حقوق الناس، والاهتمام بوقت العمل، وحسن صرف الثروة التي تعود للأمة، والابتسامة في وجه الناس، وصفاء السريرة، والمبادرة، والمواساة، والعدالة الاجتماعية، وحقوق المرأة، وغيرها من القيم. وطبعاً لا نقول إن الإسلام لم يحط بهذه القضايا، بل نقول إن العلماء الذين شاهدناهم على الشاشة لأكثر من أربعين عاماً هم الذين لم يتناولوها بالشكل المطلوب، وكان بعضهم يتحاشاها حفاظاً على موقعه الاجتماعي والإداري! 3- انفتاح بعض مقدمي البرامج الدينية على الثقافات الأخرى! فها نحن شاهدنا الداعية (أحمد الشقيري) ينقل لنا القيم الإيجابية للشعب الياباني، وبأسلوب محبب ونقلات وقطعات تلفزيونية تشدك للمحطة. وكان الشيخ محمد العوضي أيضاً قد أخرج البرنامج الديني من رهن الوعظ والوعيد والتهديد والأستديو والكتب المكدسة خلفه إلى الفضاءات الرحبة، وجال آسيا وإفريقيا محاولاً تجسيد أخلاقيات الإسلام بصورة مشوقة كرفض أعمال السحر والشعوذة، أو صناعة الخمور أو إدمان الشباب على المخدرات وبيان أضرارها وندم متعاطيها. فالشيخ العوضي لم يكتف بالوعظ والإتيان بأحاديث وسور من القرآن الكريم، بل خرج من الأستديو وجسد معاني القرآن والسنة. ونحن نعلم مدى أهمية عنصر التشويق والإثارة في التلفزيون وأهميته للرسالة الإعلامية عموماً. 4- استخدام لغة الاتصال الحقيقية. فالمشاهد لا يسمع صوت الواعظ فحسب، بل يرى تعابير وجهه. والصورة أكثر وثوقاً ومصداقية من الصوت. لذلك، قد يلهى المشاهد بتجهم وجه الواعظ أو نبرات صوته الحادة، أو صراخه أحياناً، بل ودموعه أحياناً أخرى. ولكنه عندما يشاهد وجهاً بشوشاً ولباساً أنيقاً (كاشخاً) مثل الشيخ محمد العريفي الذي كان له أكثر من برنامج في أكثر من محطة قي رمضان الماضي، وهو يقدم المادة بكل سلاسة ووضوح واختصار، فإنه يجبر المشاهدين على متابعته، وبذلك تزيد الفائدة وينجح البرنامج. 5- وجدنا لدى بعض الوعاظ الشباب روح النكتة والدعابة، وهذا عامل مهم في إيصال الرسالة الإعلامية والدينية خاصة من أساليبها المخيفة السابقة، فلا مساحات في الدنيا إلا الجنة أو النار، أي لا حديث عن سعة رحمة الله -ورأفته بعباده، بل نجد الصرامة والتحذير والوعيد مع تجهم الوجوه. لكن الشيخ الشاب سلمان الجبيلان يستخدم أسلوباً بسيطاً في تحبيب الشباب في الإسلام وسلوكياته وقيمه، دون صراخ أو وعيد أو تهديد. كما أن استخدامه حسن للصوت، ونحن ندرك أن للصوت مميزات وأهدافاً محددة في الرسالة الإعلامية، لعل أهمها شد الانتباه، والتأكيد على الحديث عن نقطة مهمة، وعدم حشرجة الصوت أو سوء مخارج الحروف. 6- ربط الدين بالدنيا وليس فقط بالآخرة. ذلك أن ثقافة الوعظ السابقة كانت قد ركزت على أن الحياة دار ارتحال وأن الآخرة دار قرار. هذا صحيح وتوجد أحاديث وآيات محددة في هذا المقام. ولكن ما نعنيه هنا عدم إهمال الدنيا أيضاً، وتطوير الحياة فيها، (ولا تنسَ نصيبك من الدنيا). لأن الدنيا يعيشها الإنسان أكثر من ثمانين عاماً أو مئة عام، ولابد له من تطبيق مبادئ الدين -خصوصاً السلوكيات الجميلة التي أوصى بها الإسلام وما قبله من أديان- منذ عهد آدم عليه السلام. ولا يجوز أن نختصر مدة 80 أو مئة عام، ونجعل الإنسان محايداً عن المعاصرة والمشاركة في صنع القرار المجتمعي. ونركز على أن هذا الإنسان ميت لا محالة، وعليه ألا ينشغل بقضايا مجتمعه وحياته. أليس حريّاً بهذا الإنسان أن يعامل أخاه معاملة طيبة، أليس من حقه أن ينظم حياته في تشريعات تحفظ حقوقه وتبين العلاقة بينه وبين الآخر، بل بينه وبين الحكومة (ولي الأمر)؟ أليس من المهم أن يشارك في تخفيف آلاَم الناس، وردع الظالمين، ومحاسبة الجائرين، وتحقيق العدالة عبر المطالبات الشرعية؟ وهذا يجرنا إلى سَن التشريعات التي تدافع عن حقوق الإنسان، وصيانة حرياته. وأيضاً توجد أحاديث حول هذه القضية وأقوال من عهد الخلافة الراشدة (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً)؟ أو في الشورى، وهي شكل من أشكال الديمقراطية (وشاورهم في الأمر). وكلها قيم حضارية أحاط بها الإسلام منذ 15 قرناً، لكن أكثر الوعاظ لم يقتربوا منها ولم يتناولوها في برامجهم. وأخيراً.. نحن مع التجديد الذي يؤدي إلى وصول الرسالة للجمهور. وهذا الجمهور ملُول، والخيارات لديه كثيرة ومثيرة، ويريد التشويق والإبهار. وحبذا لو شاهدنا في رمضان القادم برامج دينية توضح لنا قضايا حقوق الإنسان، وأهمية تشكيل مؤسسات المجتمع المدني، وكرامة وحقوق المرأة، وحسن توزيع الثروة، والعدالة الاجتماعية، ورد الحكم الظالم، وحقوق الأطفال، وقضايا البيئة والمحافظة على الكون من خلال نظرة دينية هادئة، رزينة، مقنعة.