كلما تعمقنا في دراسة الحالات العشر للدول العربية التي تخوض تجربة الإصلاح السياسي والتي درسها مشروع مؤسسة كارينجي (كتاب ما يتعدى الواجهة، 2008) أدركنا استحالة التعميم على عملية التحول الديمقراطي في العالم العربي. في مصر على سبيل المثال يعتبر ضعف الأحزاب السياسية وقلة المنافسة الحقيقية من العوائق الرئيسية للديمقراطية، حيث المشهد السياسي يخضع منذ فترة طويلة إلى سيطرة حزب واحد كان واحداً في السابق، وتحول الآن إلى حزب مهيمن وهو الحزب الوطني الديمقراطي. أما لبنان فهو على عكس حالة مصر التي تبدو فيها قوة الدولة، ذلك أن الدولة فيه ضعيفة نظراً لتعقد العملية السياسية القائمة على محاولة التوازن بين الطوائف. والمشكلة أن الطائفية في لبنان ليست مجرد ممارسة سياسية منحرفة، بقدر ما هي ممارسة سياسية مقننة، بحيث توزع المناصب السياسية الرئيسية بحسب الطوائف. وقد ترافق الميثاق الوطني الذي أبرم عام 1943 مع اتفاق غير رسمي، على وجوب أن يكون رئيس الدولة مسيحياً مارونياً ورئيس الوزراء مسلماً سنياً ورئيس البرلمان مسلماً شيعياً، وعلى وجوب تمثيل المسيحيين والمسلمين في البرلمان وفي الخدمة المدنية وفقاً لنسبة 6 للمسيحيين و5 للمسلمين (استناداً إلى الإحصاء السكاني لعام 1932). وهكذا يمكن القول إن النظام اللبناني بحكم استناده إلى الطائفية يعوق إنشاء دولة حديثة فيها سلطة مركزية تتمتع بقدرة صنع القرار. وإذا كانت الطائفية هي السمة الغالبة على النظام السياسي اللبناني، فإن القبلية هي المعلم الرئيسي للنظام السياسي اليمني، على رغم الإصلاحات الديمقراطية التي تمت فيه في السنوات الأخيرة. والنظام السياسي الحالي قام على أساس نشأة جمهورية اليمن عام 1990، عندما جرى توحيد الجمهورية العربية اليمنية المتميزة تاريخياً وسياسياً في الشمال مع جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب، وقد حاول هذا النظام بسط سلطته على مجتمع متميز ببنية قبلية قوية، غالباً ما كانت تملك استقلالية ذاتية فعلية عن الدولة. وهكذا لا يمكن فهم الواقع السياسي اليمني إلا من خلال النفاذ من باب التركيبة العشائرية من ناحية، ومشكلات الوحدة بين اليمنيين من ناحية أخرى. ويشهد على ذلك الصراع القائم الآن بين الحوثيين والسلطة المركزية في اليمن من ناحية، والتجاذب في الجنوب من ناحية أخرى. وهكذا يمكن القول -لو تأملنا حالتي لبنان واليمن- إن الطائفية والعشائرية تعتبران من بين المعوقات الحقيقية لتحقيق ديمقراطية سياسية حقيقية. والطائفية اللبنانية التي تقوم على أساس العرق والمذهب الديني، يمكن أن نجد أصداء لها في عديد من البلاد العربية أبرزها العراق حيث الصراع بين السنة والشيعة. كما أن القبلية -وإن كانت بارزة بروزاً شديداً في اليمن- لا يغيب تأثيرها في عديد من البلدان العربية الأخرى. والسؤال المحوري هو: ماذا يعني تأثير الطائفية والقبلية على مجمل العملية السياسية في بلاد عربية متعددة؟ معناه ببساطة أن الركن الأول من أركان أي نظام ديمقراطي وهو المواطَنة، غائب تماماً، وهذا في تقديرنا السبب العميق في تعثر عملية الإصلاح الديمقراطي في العالم العربي. وبعبارة أخرى، ما دام الفرد ينظر إليه ليس باعتباره مواطناً -بغض النظر عن دينه وجنسه وأصله العرقي- له كل الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية، فنحن أمام معضلة كبرى لابد من مواجهتها، إن أردنا أن نحقق تقدماً في الإصلاح السياسي العربي. ولو رجعنا إلى الخبرة الأوروبية في هذا المجال لاكتشفنا أن مشروع الحداثة الأوروبي الذي في ضوئه تم تحديث المجتمعات الأوروبية ونقلها من نمط المجتمعات الزراعية الاقطاعية إلى نموذج المجتمعات الصناعية الرأسمالية، قام أساساً على الفردية. بمعنى استخلاص الفرد من ربقة البنى الشمولية التي كانت سائدة في المجتمع الإقطاعي الأوروبي، حيث ذاب استقلاله باعتباره كياناً فردياً في خضم التنظيم الشمولي للمجتمع الإقطاعي الأوروبي، الذي كان يقوم على العبودية، بحيث كان الأفراد يعتبرون مجرد أرقام وليست لهم كيانات مستقلة، وبالتالي لم تكن لهم حقوق. ومن هنا ركز مشروع الحداثة الغربي على تحرير الفرد من أغلال المجتمع الإقطاعي، وتحويله إلى مواطن له حقوق سياسية وحقوق اقتصادية في نفس الوقت، بالإضافة إلى إعطائه حق التنقل والعمل كما يشاء، ومن هذا المنطق جاء شعار الرأسمالية المبكرة "دعه يعمل، دعه يمر"، بمعنى ترك الحرية للفرد باعتباره مواطناً في أن يتنقل وفق إرادته الحرة من مكان إلى مكان حسب تقديره، وكذلك إعطائه الحق في اختيار نوع العمل الذي يريده. وكان هذا تحولاً تاريخياً في تاريخ المجتمع الأوروبي، لأنه تضمن تحويل "الرعايا" في المجتمع الإقطاعي إلى "مواطنين". وربما عبر خير تعبير عن هذا التحول "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" الشهير. ولو ألقينا النظر الآن إلى تجربة العالم العربي لأدركنا أن مثل هذا التحول لم يحدث لأسباب متعددة، وقد يكون هذا هو السبب الحقيقي لتعثر الديمقراطية العربية. وقد كان الأفراد العرب لفترة طويلة مجرد رعايا للدولة العثمانية، وحين برزت فكرة العروبة وتحررت البلاد العربية -عبر دروب ومسالك شتى- من الإرث العثماني الثقيل، كان المفروض أن يتحول هؤلاء الرعايا في الدول العربية التي انفصلت عن الدولة العثمانية، إلى مواطنين كاملي الأهلية، لهم كافة الحقوق السياسية والاقتصادية والاجتماعية. غير أن التاريخ يشهد على أن الاستعمار الغربي بصوره المتعددة قد عوق من هذه المسيرة. فكان هناك استعمار استيطاني فرنسي للجزائر، واستعمار إيطالي لليبيا، واستعمار فرنسي للمغرب وتونس، واحتلال إنجليزي لمصر، ونظم للوصاية والانتداب على سوريا ولبنان واحتلال إنجليزي للعراق. وكل هذه الصور الاستعمارية أدت إلى وضع الأفراد العرب في بلادهم المختلفة بتأثير القمع والبطش، في خانة الرعايا وليس في فئة المواطنين الأحرار. ثم جاءت من بعد حقبة الاستقلال، واستطاعت دول عربية شتى أن تنتزع استقلالها سواء بالمفاوضات مثل حالة مصر عام 1954 بعد مفاوضات شاقة مع الإنجليز قام بها الضباط الأحرار بعد ثورة يوليو 1952، أو بالقوة المسلحة عبر حرب تحرير مجيدة كما هو الحال في الجزائر، أو بمزيج من النضال السياسي والكفاح المسلح كما حدث في تونس والمغرب. وتم الاستقلال الوطني، غير أنه فيما يبدو أن عملية تحويل الرعايا الذين كانوا خاضعين في ظل الحكومات الاستعمارية الغربية إلى مواطنين كاملي الحقوق، لم تتم لأسباب متعددة في الدول العربية المستقلة.