"ظل عشرة أيام يصارع الأمواج على سطح عبّارة من خشب دون طعام أو شراب، نودي به بطلا وطنياً وقبّلته ملكات الجمال وأغنته الدعايات، ثم شجبته الحكومة ونسي إلى الأبد"، هذه رواية قصيرة لغابرييل غارسيا ماركيز "حكاية بحار غريق" كانت في الأصل تحقيقاً صحفياً قام به ماركيز عام 1955 للناجي الوحيد بين ثمانية بحارة من رجال المدمرة "كالداس" التابعة للأسطول البحري الكولومبي بعد تعرضهم لكارثة كادت تغرق المدمرة الكولومبية. ويقول ماركيز إن بحثه كمحقق صحافي عن مواضيع خالية من جراثيم السياسة لتسلية القراء وقتما كانت كولومبيا تخضع لحكم الديكتاتورية العسكرية قاده لقصة غريق المدمرة العسكرية الذي نسف تمثال مجده بيديه عندما أعلن أن المدمرة لم تتعرض لكارثة بحرية، ولكن حمولة المدمرة من بضائع مهربة من ثلاجات، وتلفزيونات، وغسالات، تدحرجت مسببة غرق البحارة الثمانية، وأعاق الوزن الإضافي للحمولة قدرة السفينة على المناورة لإنقاذ الغرقى، وبذلك سقطت الرواية الرسمية للفاجعة الوطنية لتتحول إلى فضيحة وطنية كلفت الغريق مجده ومهنته وتسببت في إغلاق الصحيفة. هي رواية فساد سياسي تزاوج مع ديكتاتورية عسكرية لتنتج نظاماً استبدادياً شمولياً سيطر على تلك البلاد. والفساد ليس بظاهرة مرتبطة بزمان أو مكان ولا حتى بنظام سياسي، ولكنها أكثر وضوحاً وجرأة في النظم الشمولية. والفساد يولد الفساد وينشئ شبكة معقدة من الرشى والأنظمة الفاسدة متعددة المستويات. ولكن يبقى الفساد السياسي أخطرها لأنه فساد تقوده أجهزة الدولة كما صور في الرواية، وهو فساد يسري في كل جزء من أجزاء الدولة، منتقلا من مستوياتها الأعلى نزولا إلى الأدنى، فالنخب السياسية الفاسدة في النظم الاستبدادية ترى الفساد السياسي وسيلة فعالة لإدارة الصراع والحكم وتعمل على توظيفه لصالحها. ويؤدي فساد أعلى الهرم السياسي من نخب سياسية أو عسكرية إلى تداعيات خطيرة على مؤسسات الحكم والإدارة، فالسلطة هي الأداة الأهم للفساد وغالباً ما تستخدم من قبل النخب السياسية في الحصول على مكاسب شخصيه عن طريق "نهب المال العام" وإضاعة ثروة البلاد بالاختلاس والرشوة والابتزاز والمحسوبية، فالسلطة الفاسدة تدعم الخيارات الاقتصادية الهادفة لجني الأرباح الشخصية حتى لو تطلب ذلك شراء أسلحة لا ضرورة لها لكنها تتيح عمولات ورشى وافرة. وتتمترس شبكة الفساد خلف قوانين وطنية وتشريعات قابلة للتأويل وللتفسير حسبما يتلاءم ومصالح وغايات هذه الجماعات، ليصبح بذلك القانون أداة للفساد، وليصبح القائمون على القانون في الدولة من مشرعين ومنفذين حماة للفساد. فيما تظهر إحدى صور الفساد في استخدام رجال الدين لتعزيز مصالح النخب السياسية بتبرير أفعالهم وتلميع صورتهم أمام العامة، لتنشأ مؤسسة الفساد السياسي مترافقة مع الفساد الإداري، وهو فساد تظهر أعراضه في بيروقراطية إدارية وضعف أجهزة الرقابة الإدارية وغياب تكافؤ الفرص مع الحرص على إغراق هيكل السلطة الإدارية العليا بالفئات الموالية ليتراكم الفساد المؤسسي وتتحول الإدارات الحكومية إلى شبكة مترابطة من الفساد المنظم والمقنن مؤدية في النهاية إلى اهتزاز القيم والوعي والمعرفة في المجتمع وصولا إلى تحلل "المؤسسية" في الدولة. إن سرطان الفساد متى ما استحكم في السلطة والمجتمع يظل قائماً لزمن طويل، ولا يمكن أن تنجح حملات محاربة الفساد إلا إذا طابقت نموذج انتشار الفساد أي أن تكون من الأعلى إلى الأسفل وليس العكس فتقديم أكباش الفداء من صغار الموظفين لن يغير من سطوة الفساد المستشري ولا يقدم مصداقية أمام المجتمع لا لمحاربة الفساد ولا لاحترام القانون طالما ظلت النخب السياسية تلعب لعبة الفساد دون محاسبة أو مساءلة.