المفكر المصري سلامة موسى، حسب أحد الباحثين، "هو الوارث المباشر للتنويريين اللبنانيين الذين اختاروا القاهرة والإسكندرية منبراً لهم في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، وخاصة شبلي شميل وفرح أنطون ويعقوب صروف. ويمكن القول إن سلامة موسى كان أول المصريين المتأثرين بالفكر اللبناني العلماني الثوري، أو في الأقل الفكر العصري المتأثر بالثورة الفرنسية". (عصام محفوظ، ماذا يبقى منهم للتاريخ، بيروت 2000). لعب سلامة موسى دوراً أساسياً في تقديم الأفكار والنظريات الحديثة إلى الشباب بأسلوب شيق مختصر، إذ لم يكن شخصاً أكاديمياً ولا كان يستهدف في مؤلفاته النخبة المثقفة بل عامة الشعب، ولا تزال الثقافة العربية بحاجة ماسة لمن يؤدي دوراً كدوره، ويقدم المعارف الفكرية والعلمية ملخصة لعامة القراء. وقد سئل سلامة موسى مرة: "لِمَ لم تنتخب عضواً في مجمع اللغة العربية، مع أنك من أنجح واضعي المصطلحات السائغة في اللغة العربية"؟ فكان جوابه: "إن المجمع يدور في حلقة مفرغة من "الأحافير اللغوية" وهو لا يريد مصطلحات سائغة تجري على الألسن". (وديع فلسطين، أعلام العصر) والواقع أن جميع الكتب العلمية التي أخرجها سلامة موسى، يضيف وديع فلسطين، "تتميز بهذا الأسلوب السهل الموجز - وكان يسميه بالتلغرافي - الذي تتوضح معانيه من القراءة الأولى، ولا ترتطم حاسة الفهم بأي عقبة في استيعابه. وقد عالج نظرية التطور، وطرق أبواب علم النفس، وتحدث عن المذاهب الفلسفية، وتناول الاتجاهات الاقتصادية، وكتب في علوم الأحياء وفي تاريخ الفنون، فكان بأسلوبه الميسر مخاطباً لرجل الشارع ولرجل العلم على حد سواء، ناهيك عن أنه كان يتابع سير العلوم أولاً بأول، وما من كشف علمي جديد إلا سبق سلامة موسى إلى التعريف به، وشرحه بأبسط عبارة". دخل سلامة موسى في معارك لا حصر لها، وتبنى قضايا سياسية ودينية واجتماعية متنوعة، هيجت أوساطا عديدة ضد أفكاره. أما نظرية التطور، فكانت إحدى معاركه فحسب، وسط قضايا أخرى أشد خطورة وإثارة لعداوة خصومه، ونحن نرى أن رسالة دكتوراه عن "محاولات الإصلاح والتغيير في العالم العربي المعاصر وموقف الدعوة الإسلامية منها" صادرة عام 2007 للدكتور علاء محمد سعيد تقول عنه ما يلي: "سلامة موسى مثّل القمة في مشروع التغريب والتفرنج بهدف تجريد الأمة من كل أصولها وثوابتها.. كذلك مثّلت آراؤه وأفكاره تحدياً كبيراً للأمة العربية والإسلامية في الوقت الذي أسقطت فيه الخلافة الإسلامية، وكانت هذه الآراء والأفكار بمثابة نزع لأسلحة المواجهة والصمود والمقاومة لكل ما يحاك ويكاد بالأمة العربية والإسلامية.. بدأ سلامة موسى ومن على شاكلته حملتهم بالهجوم على الإسلام والدين عن طريق الهجوم على الغيب أو ما يسمونه الميتافيزيقيا، ودعوتهم إلى العقلية العلمية، والإيمان بالعلم الحديث، وعدم الإيمان بما لم يثبته العلم الحديث، واستخدموا نظرية دارون في الدعوة إلى الكفر والإلحاد كما فعل ماركس تماماً". (ص252-3) كتاب سلامة موسى عن نظرية التطور، بعكس كتابي شبلي شميل وإسماعيل مظهر، بل وحتى كتاب "نظرية التطور" لعصام الدين حفني ناصف في وقت لاحق، 1952، يمتاز فعلاً بالبساطة والسلاسة، كما أنه غير مثقل بالأفكار الفلسفية والمصطلحات العلمية، ولعل هذا كله ساعد في انتشاره وإعادة طباعته. ويستعرض الكاتب فكرة التطور ونشأة الحياة الأولى، ثم تطور الحيوان والإنسان وظهور المجتمع لينتهي بالحديث عن "إنسان المستقبل"، وعن سبب التطور يقول إنه اختلاف الصفات والإمكانات في الكائنات.. فإذا كانت الصفة والميزة مفيدة ومناسبة أورث صفاته أبناءه وإذا أضرته مات أو انقرضت سلالته. فقد مات عدد كبير من الأسود وانقرض لخور في نفسه أو ضعف في سيقانه أو بطء في وثوبه أو لأن جلده كان ظاهراً فصارت الفريسة تراه على بعد وتحذره.. ومات كذلك من الغزلان جميع تلك الأفراد التي كانت ثقيلة الحركة غير متيقظة للعدو، أو كانت حوافرها لا توافق تربة الصحراء أو كان لون جلدها ظاهراً. فالأحياء تولد مختلفة، وكل اختلاف إما أنه يفيدها فيكثر نسلها، وإما أن يضرها فتبيد.. ويشرح سلامة موسى تطور بعض أعضاء جسم الإنسان كالثدي فيقول إن في جلود الأسماك غدداً تفرز نوعاً من الدهن، وأكثر الضفادع وبعض الأسماك تفرز مادة زيتية كريهة على جلودها حتى لا يفترسها مفترس. وهذا هو السبب في أن الكلب أو القط أو الثعلب يكره الضفادع ولا يأكلها مع كثرتها أمامها. وللزواحف والطيور غدد تفرز مواد كريهة أحياناً لتكرّه أعداءها فيها حتى لا تفترسها، على أن الحيوان اللبون "ذا الثدي" يمتاز على كل الحيوانات الأخرى بثلاثة أنواع من الغدد وهي غدد اللبن أي الأثداء، وغدد العرق، وغدد الشعر أي الغدد الدهنية. واللبن في تركيبه قريب من المادة التي تفرزها غدد الشعر وتشتد مشابهته لمفرزات الغدد الدهنية هذه كلما نزلنا في سلم التطور إلى الحيوان اللبون القريب من الزواحف، وعدد حلمات الأثداء والضروع تكون عادة مناسبة لعدد ما يلده الحيوان في الدفعة الواحدة. ولذلك هي كثيرة في الفأر والخنزير، قليلة في الإنسان والقرد. ويظهر في جنين الإنسان خمسة أزواج من الحلمات ثم تضمر وتزول مما يدل على أن الإنسان قضى حيناً من الزمن، وهو مثل الخنزير والفأر يلد عدداً من الأولاد في الولدة الواحدة. ويعرض بعض آراء داروين حول القوى العقلية في الإنسان والحيوان وتشابه الغرائز بين الاثنين، كحب الذكر للأنثى وحب الأم لأولادها. وقد شوهد أن إناث القرد تموت جزعاً عند فقدان أطفالها، وأن الكلب يلحس يد صاحبه وهو يقتله مما يدل على أن عواطف الحب والأمانة شديدة في الحيوانات. وإناث القردة تتبنى اليتامى من نوعها وترضعها وتربيها. وقد ميز البعض الإنسان من الحيوان بأنه يستطيع الترقي والتقدم وأنه يستعمل النار ويستأنس الحيوانات وأنه قادر على التفكير المجرد وأنه يستعمل لغة ما ويستعين بالآلات ويقدر الجمال إلخ. ونحن نرى بعض مراحل هذه الميزات في عالم الحيوان، ففي مجال الانتفاع من التجارب لوحظ أن الحيوانات المسنة لا تقع في الفخاخ بالسهولة التي تقع بها صغارها والصائد لا يستطيع الصيد في موضع واحد دائماً لأن الحيوانات تعرف الفخ وتتوقاه. والقرد يكسر البندق والجوز بالأحجار والفيل يقطع أغصان الأشجار ويذب عن نفسه الذباب، والحيوان يقدر الجمال مثل الإنسان...والحاصل في رأي داروين أنه ليس ثمة فرق نوعي بين الإنسان والحيوان في القوى العقلية. وعن العلاقة بين الإنسان والقرد يلاحظ سلامة موسى أن حدائق الحيوان لا تحتوي في الغالب إلا على الأنواع الدنيا من القردة، والتي لا يمكن لأحد أن يفكر بأنها تشترك مع الإنسان في أصل واحد. ولكن هناك أربعة أنواع من القردة العليا لا نراها عادة في كل الحدائق وهي "الجيبون" و"الأورانج أوتان" و"الشمبانزي" و"الغوريلا". وهذه القردة "بتراء"، بدون ذيل كالإنسان ونحن نمتاز عنها بقامة عمودية وبجمجمة كبيرة وبجسم أملط أو خفيف الشعر. ونحن نحبو أولاً في طفولتنا ثم نتعلم الانتصاب ونعود في شيخوختنا إلى الانحناء. ولو لم يكن وضعنا العمودي لا ثقلت الجمجمة الكبيرة كاهلنا. أما الملط وزوال الشعر فمرجعه إلى أننا نحن البشر قد اهتدينا إلى النار وإلى السكن في الكهوف منذ أزمان بعيدة فانتفت حاجتنا للشعر الكثيف على أجسامنا. ولا يزال أثر المناخ واضحاً، فإن الزنجي الذي يعيش حول خط الاستواء أملط بخلاف الأوروبي الذي لا يزال الشعر يكسو معظم جسمه، لأن الشعر يؤدي عمل الكساء الصوفي في التدفئة، وأوروبا باردة وأفريقيا حارة. والفيل في أفريقيا وآسيا يكاد يكون بلا شعر بينما الدب والثعلب في القطب الشمالي يكتسيان بفراء وفيرة كثيفة.