صحيح أن النقد الذي تعرض له "إعلان برلين" الذي أصدره المشاركون في مؤتمر معاداة السامية في أول مايو الماضي قد أغفل سبباً مهماً وراء توسع اللاسامية في أوروبا وهو تصاعد القهر الذي تمارسه إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني. لكن ليس صحيحاً أن هذا النقد كان دافعاً إلى تبرير معاداة السامية واستهداف اليهود الذين لا خلاف للعرب والمسلمين معهم بشراً وديناً. فالخلاف هو مع الصهيونية لا اليهودية، ومع الإسرائيليين الذين يقهرون الشعب الفلسطيني ويحرمونه من حقوقه الوطنية المشروعة.
ولذلك فإذا كنا نرى في "إعلان برلين" نقصاً فلنعبر عنه دون أن نترك مجالاً لتأويل هذا الموقف كي يتسع لتبرير معاداة السامية. ولا ننسى، أيضاً، أن هذه الظاهرة سابقة على اغتصاب فلسطين، وأنها كانت ظاهرة محض أوروبية لا ذنب للعرب والمسلمين فيها. كما لا مصلحة لهم في تبريرها، بل على العكس فإن لهم مصلحة في إدانتها باعتبارها جريمة ضد الإنسانية مثلها مثل ما يحدث في حق الشعب الفلسطيني. فالموقف المبدئي هو استنكار العداء للسامية، لأنه امتداد طبيعي لرفض الظلم الذي وقع على الشعب الفلسطيني. ولذلك لا يصح أن نغضب عندما تتخذ دولة مثل فرنسا إجراءات لمواجهة تصاعد اللاسامية. فمثل هذه الإجراءات لا يضيرنا لأننا لسنا معادين للسامية ولا ينبغي أن نكون. بل ربما يكون علينا أن ندعم كل ما يضع حداً لظاهرة اللاسامية لأكثر من سبب. فنحن في حاجة إلى تأكيد أننا مبدئيون في مواقفنا ومتحضرون لإدارة صراعاتنا لأن هذا هو ما ينسجم مع تقاليدنا وقيمنا. ومن ناحية أخرى فقد ثبت أن الاتجاهات الأكثر تطرفاً في إسرائيل هي التي تربح كلما ظهرت موجة من موجات العداء للسامية. فقد راكمت خبرات هائلة في مجال استثمار هذه الموجات مستغلة في ذلك عقدة الذنب الكامنة في الوعي الأوروبي تجاه اليهود. وبات في إمكانها أن تحول معاداة السامية إلى شعار للابتزاز وسلاح تشهره في وجه كل نشاط لا ترضى عنه وضد من يذهب إلى مدى معين في انتقاد سياسات إسرائيلية عدوانية تجاه الشعب الفلسطيني. إن وضع حد لمعاداة السامية هو في مصلحتنا قبل أن يكون في مصلحة إسرائيل. ونحن نرفض معاداة السامية لأننا ضد كل ظلم يقع على البشر بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية واللغوية وغيرها.
وهذه مهمة محددة وبسيطة إلى حد كبير، ولكنها مؤثرة ومنتجة. فلسنا في حاجة إلى الدخول في مجادلات عقيمة من نوع أنه ليس كل اليهود ساميين. فهذه مجادلات صحيحة فعلاً لأن أعداداً من غير الساميين تهودوا في روسيا وبعض الجمهوريات الأخرى التي كانت جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق مثلاً. لكن هذه قضية يمكن أن نعنى بها في سياسة إعلامية لا يربحها بالضرورة الأقوى حجة والأكثر برهاناً.
وقل مثل ذلك عن المجادلة القائلة إن العداء للسامية يعني موقفاً ضد العرب وليس فقط ضد اليهود، انطلاقاً من أن العرب هم أكثر الجماعات قرباً مما يمكن تسميته الخطاب الحضاري السامي الأصل. فهذه، بدورها، مجادلة صحيحة في حد ذاتها، ولكن ليس لها أثر قوي في معركة لها حسابات مختلفة وخلفية مغايرة. إن خلفية معركة معاداة السامية ترتبط بمظالم وقعت ضد اليهود في أوروبا، وخصوصاً في ألمانيا النازية، وتعود إلى الموقف الذي اتخذه أدولف هتلر عندما اعتبر أن اليهود هم أساس البلاء في الأرض وأنه يجب بالتالي القضاء عليهم. ولذلك ارتبطت معاداة السامية بالمحرقة أو "الهولوكوست" أكثر مما تعلقت بأي حدث آخر. ويظهر ذلك، على سبيل المثال، في التشريعات التي أصدرتها دول أوروبية عدة بهدف حظر معاداة السامية ومنع الأفعال التي تجسدها أو تعبر عنها. ومن ذلك القانون الذي أقرته النمسا عام 1992 ويعاقب بالسجن لمدة ستة أعوام من ينفي وجود الهولوكوست. وفي بلدان أخرى يحظر القانون الحث والتحريض على التمييز العنصري أو المس بذاكرة الأموات، مثلما فعلت سويسرا حين تبنت نصاً تشريعياً من هذا النوع. ولكن قانون جيسو الفرنسي هو الأكثر قوة تجاه تجريم الأفعال المعادية للسامية اليهودية. فقد صدر قانون جيسو في فرنسا عام 1990 ونصت المادة (24 مكرر) منه على تجريم ما سمته بالتشكيك فيما انتهت إليه محكمة نورمبرغ من تحديد عدد ضحايا النازية من اليهود بستة ملايين يهودي. ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. ففي 22 سبتمبر 2000 تم تعديل نص المادة 24 من قانون الصحافة الفرنسية الصادر في 29 يوليو 1881 (دخل التعديل حيز التنفيذ في أول يناير 2002) لتنص على جريمة التحريض على التمييز العنصري أو على الكراهية أو على العنف ضد فرد أو طائفة من الناس، ولو لم يترتب على ذلك وقوع ضرر معين. وقد حدد القانون الفرنسي عقوبة الحبس لمدة سنة وغرامة قدرها خمسة وأربعون ألف يورو لكل من يقترف هذه الجريمة. واعتبرت محكمة النقض الفرنسية أن تجريم هذا الفعل لا يعد خروجاً على حرية الرأي والتعبير المنصوص عليها في المادتين 9 - 1 ، و10 - 1 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، لأنه يمثل ضمانة ضرورية للسلم العام وحماية النظام وحقوق وحريات الغير. بل توسع ال