اليمن السعيد! في عصور قديمة كان اليمن سعيداً بأهله وطقسه وعزلته التي كانت تبعد عنه الأطماع وتقي أهله مضار الاختلاط بغرباء السحنات والأفكار والمعتقدات؛ وبالرغم من هذا كانت صفة السعادة تُسحب من حين لآخر عن اليمن لتحل محلها وحمة الشقاء، كلما كان اليمن في عين عاصفة الأحداث التاريخية التي يصنعها محيط قريب أو بعيد. اليوم... نعم اليوم، لا مكان هناك لكلمتي اليمن السعيد، بل حل محلهما وحسب ما تقول الأخبار: اليمن "الفاشل"، واليمن الخطر، واليمن "حاضن الإرهاب"... الخ. ... نحن نعلم أن هذا ليس صحيحاً بمجمله، ففي اليمن بقايا حكمة، وفي اليمن وسطاء من الناس يمثلون وسطية العيش والفكر والتدين خير تمثيل، ونحن نعرف أن اليمن ضحية من الأبعدين كما من بعض أهله، ونحن نعرف أن اليمن يعيش عدة مخاطر وليس ثلاثة مخاطر كما تقول الأخبار، ونحن نعرف أرض اليمن تعيش أكثر (قليلاً) مما تعايشه كثيرٌ من البلدان العربية والإسلامية، التي ظهر جلياً اسمها في الأخبار العاجلة، أو التي تنتظر دورها كصانع سلبي للأحداث. ما الذي جعل اليمن غير السعيد محطاً للتقارير الإخبارية المصورة والمكتوبة أو التي تحملها شفرات وحقائب الدبلوماسيين المغادرين والقادمين... لليمن السعيد؟ لأن العالم المتقدم الخائف انتبه مؤخراً لما قد يحيق بمكتسباته من تلك الجماعات التي تظهر على التليفزيون أو من خلال الإنترنت متوعدة أو معلنة مسؤوليتها عن عمليات فاشلة موجهة له لم تتم، لكن في المقابل هناك عمليات كبرى تمت في اليمن ذاته وأدت إلى إعطاب مدمرات غربية ومقتل الكثيرين من جنود البحرية، مـمَّن تصادف أن كانوا على متن تلك السفن المدججة بالأسلحة، حدث هذا قبل سنوات... فما الذي جعل الاهتمام العالمي يبرز أكثر باليمن السعيد هذه الأيام؟ في ظني أن القوى الغربية كانت ترى العمليات السابقة مجرد أعمال لجماعات منعزلة عن محيطها، إرهابية ودموية وعنيفة... لاشك، لكنها كانت خارج السياق الاجتماعي اليمني وفي الإمكان حصرها وتشتيت جهودها. أما الآن فالغرب ومعه حلفاء كثر، يرون -وفي ذلك مبالغة- أن المجتمع اليمني ككل أصبح الراعي الأكبر للإرهاب المعولم، وأن الرعاية تمتد من إعطاء ملاذات آمنة للإرهابيين، إلى أن يصل هذا الاحتضان إلى الاشتراك الفعلي في التخطيط والتمويل والتنفيذ، لما سبق واكتشف من عمليات إرهابية قبل أسابيع، أو التي يمكن أن تحدث في المستقبل، وأن الرعاية الجمعية للإرهاب اليمني حسب الرؤية الغربية، يدعمها اهتزاز أو عدم قدرة أو تساهل من قبل الحكم المركزي في صنعاء، مما يعطي تشابهاً بين الوضع اليمني وبين الحالة الأفغانية أثناء حكم ما بعد الانسحاب السوفييتي وسقوط بلاد الأفغان بعد ذلك في قبضة "طالبان"! مما يدعو للأسف، ونحن نستغرب من هذه المقارنة، أن يكون الهم اليمني حاضراً في الذهنية الأمنية الغربية، ويكون بعيداً في ذات الوقت -وإن بشكل علني- في ذهنية الأزمات العربية والتداعي الأخوي للمساندة المختلفة من قبل المحيط العربي الواسع، الذي يشكل اليمن جزءاً أساسياً منه. عقد لتدارس الوضع في اليمن مؤتمر ليس في القاهرة أو دمشق أو الرياض أو الرباط أو في مكان انعقاد مؤتمر القمة القادم، بل عقد في أقصى الشمال... في لندن، والداعي له رئيس الوزراء البريطاني الذي يمثل الغرب تقريباً وليس أمين الجامعة العربية للأسف! هذا يعطي مؤشراً إضافياً إلى أن الأمن العربي لا راعي له، وأن فكرة الرجال العرب المرضى والذين يعالجهم شرق العالم وغربه، أصبحت حقيقة يعترف بها العرب أنفسهم، قبل الإقرار الفعلي الذي يمارس تبعاته العالم الخائف من وعلى الرجال العرب المرضى الذين ليس لمرضهم لقاح ولا مضادات، إلا تلويح بالعصا والجزرة... بأجهزة كشف الأجساد والطائرات المحملة بالصواريخ والتي تطير بدون طيار، إضافةً لحزمة معونات أمنية وأجهزة تنصت هاتفية وملايين قليلة، تُسمى (معونات) وتخصص لشراء المعدات الغربية الأمنية والعسكرية. اليمن بلد إسلامي عربي نصف خليجي، لم تسترعِ حالته التي كان للتدخل الإسلامي الشقيق في شؤونه نصيب في سوئها، وكان لقصر نظر الإدارة الداخلية نصيب كذلك في تفاقمها، وكان للرضا بالعزلة والفقر والبطالة اليمنية من قبل المحيط العربي الأقرب والأبعد النصيب الأكبر في عجز الجسد اليمني عن المقاومة والصمود. اليونان وأيسلندا والبرتغال بلاد أوروبية تشكو فقط من أزمات مالية داخلية تسببت في فقاعتها المتفجرة أزمة مالية عالمية كبرى مرت قبل سنة ولا زالت تبعاتها. هذه البلدان هي محط الرعاية الفائقة الغربية بكل مستوياتها من شركاء الأمن الاقتصادي. ماذا لو كانت في بلد أوروبي -مثل قبرص- خلايا نشطة أو نائمة للإرهاب... كيف ستكون ردة فعل الاتحاد الأوروبي؟ أنا متأكد أن (24) ساعة كثيرة على اجتماع يعقده مسؤولو الزعامة الأوروبية وعلى مستوى القمة في أي عاصمة أوروبية، لا لمناقشة (الوضع القبرصي) المفترض فقط بل لتفعيل آليات التصدي للحالة المتخيلة تلك. سيذهب للبلد الأوروبي المبتلى بالإرهاب (المفترض) رجال أمن وعسكريون وباحثون اجتماعيون ونفسانيون ورجال مال واقتصاد. أما اليمن (السعيد) في أيامنا هذه فإن رياضيين من دول الخليج يحجمون عن إقامة دورة في كرة القدم به خشية إصابة أرجل مواطنيهم جراء العنف والإرهاب اليمني المحلي والمستورد منه، والجامعة العربية تفكر بسحب بعثتها بسبب الخوف على مندوبيها ورجالها! إنني أحلم بعقد اجتماع على مستوى عالٍ جداً في صنعاء، اجتماع عربي طارئ يُنظر ويناقش ويساعد، ويأخذ بيد (المصلحين) في الجانب اليمني، على هذا الاجتماع (الأمنية) أن يضع القطار اليمني الذي لابد أن تثبت سلامة أجهزته المحركة والخالية من الفساد، على قضبان الأمن اليمني والخليجي والعربي والإسلامي والدولي.