بغداد... هذه المدينة ذات الأوجه المتعددة، التي تحاول جاهدة تعريف مستقبلها غدت مستقري الجديد. ومن موقعي كرئيس لمهمة المساعدة الأممية في العراق، لفت نظري تلك الطريقة غير المتحفظة التي يبدي بها السياسيون والدبلوماسيون والصحفيون وخبراء مراكز الأبحاث والدراسات آراءهم أو توصيفاتهم بخصوص مستقبل هذا البلد، دون أن يدركوا أن العراقيين بات لديهم عبر تاريخهم الطويل حساسية خاصة تجاه تدخل الأجانب في شؤونهم. وأنا على يقين بأنه رغم كافة الأحاديث التي تدور حول الكيفية التي يمكن بها إعادة الأوضاع في العراق إلى طبيعتها، فإن التعريف الدولي لتلك"الطبيعية" قد لا يتفق مع ما يريده العراقيون. ووجود الأمم المتحدة في العراق يمثل مفارقة في نظري. فهو من ناحية يعكس الاهتمام المباشر للمجتمع الدولي بمستقبل العراق. ومن ناحية أخرى فإننا كي نحدث انقطاعاً مع الماضي يتوجب علينا العمل على تحويل الانخراط الدولي من التدخل إلى الاشتباك الإيجابي. وهذا النوع من الاشتباك يجب أن يساعد العراق، وييسر له طريق العودة إلى مجتمع الأمم وفقاً لشروطه الخاصة، وهو ما يمكن تحقيقه وتسريع خطاه من خلال ثلاثة طرق محددة هي: أولًا، من خلال الاعتراف بالعملية السياسية: فالجهود التي تقود إلى الانتخابات البرلمانية في السابع من الشهر الجاري، تستحق المزيد من الثناء، حيث أظهرت الغالبية العظمى من المواطنين العراقيين وأعضاء البرلمان التزاماً جدياً بتنظيم انتخابات ذات مردود مقبول للشعب، بعد أن تم التغلب على الكثير من العراقيل الدستورية في هذا السياق ومنها النص الخاص بأن الولاء لحزب "البعث" يحول دون الشخص ودون شغل المناصب العمومية، والذي يمكن أن يستخدم لتصفية حسابات سياسية. المحصلة النهائية لكل ذلك، هي أن 6000 مرشح وعدد كبير من الائتلافات والأحزاب الجادة من المحتمل أن تتنافس من أجل نيل أصوات الناخبين الذين لم يكن بمقدورهم منذ خمس سنوات فقط تحديد شكل حكومتهم. ثانياً، التوصل لصيغة لاقتسام عوائد النفط من أجل ضمان الاستقرار. وهذا أمر لا يمكن بأي حال من الأحوال مدفوعاً بأجندات خارجية ـ مهما بلغ إغراء النفط. والمشاركة الدولية في الشأن العراقي يجب ألا تتجاوز تقديم المساعدة من أجل تسهيل التوصل إلى أجندات واتفاقيات مشتركة بما في ذلك دعم الترتيبات الأمنية. ومن المهم في هذا السياق أن يتفق العرب والأكراد على مستقبل العلاقات فيما بينهما داخل عراق فيدرالي، على أن يشمل ذلك بوجه خاص اقتسام عوائد النفط وتحديد مسؤوليات الأجهزة المحلية والإدارية. ثالثاً: من خلال العمل على حشد الجهد والالتزام الدولي بدعم عملية عودة العراق إلى الحالة الطبيعية. قد يفيد في هذا السياق تذكر أن معظم القرارات التي أصدرها مجلس الأمن الدولي منذ حرب الخليج، قد وضعت العراق تحت إشراف الأمم المتحدة، وهو ما أدى إلى خلق عقبات لا يزال يتعين التغلب عليها. ومن الطبيعي أن ينظر العراقيون إلى ذلك على أنه أمر غير عادل ولا يليق بهم، كونه لا يتيح لهم حرية البت في الكثير من المشكلات القائمة مع دول الجوار ومنها المسألة الحدودية مع الكويت، والتي تطالب الكويت بغداد بتقديم ضمانات بشأنها، وهو ما لا يمكن على ضوء ما سبق تقديمه دون مشاركة دولية. السؤال: هل يمكن أن يصبح هذا العام هو عام العودة إلى الحالة الطبيعية في العراق؟ بعد ثلاثة عقود من الحروب، والعقوبات، والديكتاتورية يمكنني أن أتبين أن التعددية بكل ما رافقها من نجاحات أو إخفاقات في طريقها لأن تصبح الآن شيئاً متجذرا في الحياة السياسية اليومية بالعراق، وأن هناك في الوقت الراهن جهودا جادة تُبذل في بغداد وأربيل من أجل تحسين أساليب الإدارة الحكومية الرشيدة ، وأن عقود إنتاج النفط توفر إمكانية راسخة لإدارة العوائد وبناء الدولة، وأن القوات المسلحة العراقية وعلى الرغم من بعض الهفوات المزعجة تحقق تقدما في السيطرة على الأمن الداخلي. بالإضافة إلى أن النقاش السياسي قد غدا نشطاً، والمشهد الإعلامي أكثر تنوعا بما لا يقاس، وأما المشهد الإعلامي فهو متنوع للغاية. لا شك أن التهديدات الأمنية للعملية الانتخابية تهديدات حقيقية قد تشمل استهداف المرشحين السياسيين ومنظمى العملية الانتخابية. ولكن ليس من المحتمل مع ذلك أن تؤدي تلك التهديدات إلى إخراج تلك العملية عن مسارها المحدد. أما السجال الذي دار حول استبعاد المرشحين الذين يشتبه في علاقتهم بصدام، أو بحزب "البعث"، فهو وإن كان يمثل مصدراً للقلق، إلا أنه شيء طبيعي، بل وحتمي في أمة تمر بمرحلة انتقال من الحكم الديكتاتوري إلى نوع جديد من السياسات، وعلى الرغم من بعض الانتكاسات التي حدثت فهناك إحساس عام سائد بأن العودة للحياة الطبيعية غدت شيئاً وشيكاً. هناك عقبات هائلة لازالت قائمة بما في ذلك الفوارق الاجتماعية و"فجوة"التسوية لا تزال تمثل مصدراً لعدم الاستقرار، لكن لا يجب بحال النظر إلى تلك المصادر على أنها أسباب وجيهة تبرر الاستمرار في النظر إلى العراق على أنه لا يزال بحاجة إلى قدر من"الإشراف". إن منح الفرصة لشعب العراق لصنع قراراته بنفسه يتطلب تغييراً في العقلية والعادات السائدة لدى العديد من الجهات الدولية والإقليمية ذات المصلحة في استقرار الأوضاع في العراق، والتي لا شك أنها ستكسب جميعاً إذا ما تم اتخاذ المسار الصحيح نحو إعادة الأمور للحالة الطبيعية. آد ميلكيرت الممثل الخاص لأمين عام الأمم المتحدة في العراق ينشر بترتيب خاص مع خدمة "واشنطن بوست"