من لا يعرف عنوان "مكتوب السلام"؟!
عندما أعلن الرئيس الأميركي عقب وصوله إلى الحكم عام 2009 عن مشروعه للتوصل إلى حل لأزمة الشرق الأوسط على أساس حل الدولتين، وتجميد الاستيطان كشرط لبدء مفاوضات جدية، تنفس العالم الصعداء. وكان في مقدمة المتحمسين لهذه الخطة الحكومات الأوروبية التي تخشى دائما انتقال العنف المتفجر في جوارها المباشر إلى أراضيها، فأيدت مطلب التجميد الكامل للاستيطان. لكن الأكثر حماسة كان من دون شك هو الحكومات العربية التي كادت تفقد الأمل -بعد عقدين طويلين من المفاوضات الماراثونية غير المجدية- بالخروج من نفق الأزمة، وقد بدت على وشك أن تضع سلاح المواجهة الدبلوماسية بعد أن وضعت سلاح الحرب.
بيد أن حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر. ولم تمض فترة طويلة حتى تبين وهن المبادرة الأميركية الجديدة وافتقارها للصدقية. فقد رفضت إسرائيل علنا الانصياع لـ"الإرادة" الأميركية، واستمرت في عملية الاستيطان الزاحف، بل بالغت في استفزاز العرب والفلسطينيين من خلال تدمير المنازل وطرد السكان والسطو على الآثار والمواقع وإلحاقها بـ"التراث العبري"، أي عبر التهويد الصريح للقدس العربية وقطع الطريق على إمكانية قيام أي دولة فلسطينية تتجاوز نموذج "البانتستونات" التي عرفتها جنوب إفريقيا العنصرية سابقا، أي الجزر المعزولة والمقطوعة عن بعضها، والمحاصرة وسط بحر من المستوطنات والأعمال العدوانية لميليشيات المستوطنين مطلقة الأيدي.
هكذا انتهت مهمة ميتشيل بفشل ذريع، أي بانهيار مشروع المفاوضات من دون تحقيق أي تقدم في أي ملف من ملفاتها العالقة، بل قبل أن تبدأ أصلا. أما المبادرة الخاصة التي كان الرئيس الأميركي قد وعد بالإعلان عنها كمساهمة في تقريب وجهات النظر بين الفريقين، والتي انتظرتها جميع الأطراف بفارغ الصبر، فقد دفنت ولم يعلم بمضمونها أحد ولا قرأها أو سمع عنها شيئا بعد ذلك الوقت.
كان هذا الفشل صفعة كبيرة للإدارة الأميركية التي راهنت على تطبيق سياسة جديدة تقوم على التفاهم مع حلفائها الأوروبيين وبقية دول العالم، وتعتمد أسلوب الحوار بدل التهديد بالحرب أو شنها لتحقيق أهدافها، كما فعلت الإدارة السابقة. وكان من الطبيعي أن يكون الشرق الأوسط الذي يشكل قوس الأزمات الراهنة وتتمحور حوله المواجهات الأعنف في عالم اليوم، المسرح الأول لاختبار السياسة الجديدة. وكي يعزز حظوظ منهجه الجديد حمل الرئيس الأميركي نفسه وذهب إلى القاهرة، أكبر عاصمة عربية، ليعلن من هناك وقف الولايات المتحدة، ومن ورائها الكتلة الغربية الحليفة لها، "الحرب الباردة" ضد العرب والمسلمين، واعتزامها العمل، مع قادة دول الكتلة، بجدية وفاعلية، لتجاوز الخلافات القائمة والتوصل إلى سلام يفتح آفاق التقدم في المنطقة.
لكن إخفاق المبعوث الأميركي لم يغلق الباب نهائياً أمام أمل التقدم في مفاوضات قادمة. بل إن قسما كبيرا من الزعماء والرأي العام في العالم العربي، راهنوا على أن يقود الموقف الإسرائيلي المتصلب الذي شكل ضربة أليمة لصدقية الإدارة الأميركية في مطلع عهدها، وهدد الثقة بمقدرة الرئيس أوباما على فرض إرادته واستلام السلطة بالفعل في البيت الأبيض، إلى تصدع العلاقات الأميركية الإسرائيلية. وظنوا أن الأميركيين، وربما الرأي العالمي بأكمله، سوف يدرك بسرعة بعد الآن أن إسرائيل هي المسؤولة عن تعثر مفاوضات السلام أو دورانها في حلقة مفرغة. واعتقد بعضهم أن وجود حكومة ليكودية متطرفة في تل أبيب ربما يدفع الأميركيين إلى الابتعاد عن إسرائيل والاقتراب من الموقف العربي. وعزز من هذا الاعتقاد رد الفعل العالمي القوي على حرب غزة عام 2008. لكن صدمة العرب كانت عظيمة عندما رأوا السرعة المذهلة التي تراجعت بها واشنطن عن وعودها، وعادت إلى تحميل الفلسطينيين المسؤولية الرئيسية في فشل مهمة ميتشيل. ولم تتردد وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون في مسح كل ما كانت الإدارة قد أعلنته في هذا المجال على لسان أوباما بتأكيدها أن واشنطن لم تطلب أبداً الوقف الكامل للاستيطان، وأن على الفلسطينيين أن يقبلوا الدخول في المفاوضات بعد ما أعلن نتنياهو تجميداً جزئياً ومؤقتاً لبناء المستوطنات. ولم تكتف هيلاري بذلك بل طلبت من العرب مساعدة الفلسطينيين الذين عز على رئيس سلطتهم عباس قبول العرض الأميركي الجديد بعد أن تورط في تصليب موقفه، في تجاوز الأزمة والتراجع عن تمسكه بالوقف الكامل للاستيطان. أما العواصم الاوروبية فالتزمت الصمت في الموضوع كأنها لم تطالب بالتجميد الكامل ولا سمعت به!
أمام التصلب الإسرائيلي، عادت الجهود الدولية لتنصب على الفلسطينيين لإنقاذ الموقف، وتجنب إعطاء الانطباع بأن العملية السياسية التي يعيش عليها التمديد للاحتلال والتغطية على تواطؤ الدول الغربية، قد انهارت تماماً. مما يعني أنه لم يبق هناك أمل سوى مراجعة العرب لاستراتيجيتهم والنظر من جديد في ما يمكن أن يفعلوه أو ما يجب عليهم فعله إذا كانوا لا يزالون عند موقفهم في المطالبة باسترجاع أراضي عام 1967. وكما كان من الصعب على عباس أن يبلع الطعم من جديد ويقبل بالعودة إلى مفاوضات يعرف هو، ويعرف العرب جميعاً أنها مضيعة للوقت لصالح إسرائيل، كان من الصعب على العرب أيضاً أن يتخلوا عن أوهامهم التي أطلق لها أوباما العنان، ويقبلوا بالضغط مجدداً على الفلسطينيين لدفعهم نحو المفاوضات، وما بالك باتخاذ مزيد من إجراءات حسن النية والتطبيع وتعزيز العلاقات مع تل أبيب لإقناعها بصدق العرب في طلب السلام!
وقد صمد العرب فعلا ووضعوا إسرائيل في موقف دولي صعب، إذ بدأت جميع أصابع الاتهام تتوجه إليها بوصفها المعيقة الرئيسية للسلام. فما الذي حصل فجأة ودفع العرب إلى الإعلان في مؤتمر وزراء خارجية الجامعة العربية الأخير عن قبولهم بمفاوضات فلسطينية إسرائيلية، من دون وقف الاستيطان؟ وماذا ستقدم الأشهر الأربعة الإضافية من جديد لمفاوضات لا تزال تجري من دون جدوى، في الشروط التي قبلناها نفسها، منذ عقدين كاملين؟
قديما قيل: المكتوب يعرف من عنوانه. وعنوانه هنا هو أنه بينما كان مؤتمر وزراء الجامعة العربية منعقدا لاتخاذ قرار إطلاق المفاوضات، كان نتنياهو، المستعد دائما لحمل راية السلام والذهاب بها حتى إلى دمشق، يوقع قرار إدراج الحرم الإبراهيمي ومسجد بلال في التراث اليهودي، أي يعلن انتزاعهما من العرب والمسلمين، استعداداً للاستيلاء عليهما، في إطار سياسة الإلحاق والتهويد. بينما كان وزير خارجيته يطالب علنا زعماء العرب بالتخلي عن الأراضي المحتلة إذا أرادوا البقاء في مواقعهم والسلام مع إسرائيل!