يبدو أن العلاقات العربية- الهندية استأنفت مسارها الطبيعي بعد غياب دام لأكثر من عقد من الزمن، تميز بصعود الحزب اليميني المتشدد "بهارتيا جاناتا" إلى الحكم في الهند وقيادته للبلد طيلة الفترة السابقة. وقد استغرق من حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم بعض الوقت قبل تحييد أجندة الحزب "اليمينية" والتخفيف من تأثيرها على الحياة السياسية في الهند، وهي مهمة لم تكن سهلة على كل حال بالنظر إلى الأفكار التي زرعها حزب "بهارتيا" على مدى السنوات التي قضاها في السلطة، لذا تأتي الزيارة الأخيرة التي قام بها رئيس الوزراء الهندي، مانهومان سينج، إلى السعودية والتي تعتبر حدثاً مفصلياً في العلاقات الثنائية بين البلدين لتمثل نقطة تحول حقيقية تمتد إلى مجمل العلاقات الهندية- العربية، بحيث انطوت الزيارة الهندية على إشارات رمزية كثيرة، فضلاً عن المضمون الذي جاءت به إلى المنطقة تكريساً لمنطق التعاون والحوار المشترك بين منطقتين من العالم لهما دور بارز على الساحة الدولية، وهو ما يعكسه حرص الهند على تطوير علاقتها بالجوار العربي وتعزيز تعاونها الاستراتيجي معه في شتى الميادين الاقتصادية والعلمية والثقافية وغيرها. ولتدعيم هذا التوجه الهندي نحو تطوير علاقتها مع العالم العربي أتت الزيارة الحالية لترقية تلك العلاقات إلى مستوى أعلى بين الرياض ونيودلهي والوصول بها إلى درجة الشراكة الاستراتيجية من خلال التوقيع على مجموعة من اتفاقيات التعاون كان أهمها "إعلان الرياض"، الذي وقعه كل من رئيس الوزراء الهندي "مانهومان سينج"، والعاهل السعودي الملك عبد الله بن عبد العزيز، وهي الخطوة التي ستكرس الطبيعة الاستراتيجية للعلاقات بين الجانبين وتنقلها إلى مستوى أعلى من التعاون. والحقيقة أن إعادة تفعيل العلاقات السعودية- الهندية تأخرت وكان يفترض توطيدها منذ فترة طويلة، فهذه هي الزيارة الأولى، التي يقوم بها رئيس وزراء هندي إلى الرياض بعد غياب دام 28 عاماً، وكانت آخر زيارة حملت مسؤولاً هندياً إلى السعودية تلك التي قامت بها في العام 1982 وزيرة الخارجية أنديرا غاندي، ويمكن تفسير هذا الغياب بظروف "الحرب الباردة"، التي كانت على أشدها بين القطبيين العالميين، كما أن الغزو السوفييتي لأفغانستان وضع البلدين في معسكرين متقابلين مع الاصطفاف العربي عموماً لصالح أفغانستان والتسهيلات التي قدمت وقتها للمجاهدين الأفغان بدعم أميركي لطرد الروس. لكن بعد انتهاء "الحرب الباردة" وخروج القوات السوفييتية من أفغانستان بدأ الدفء يعود رويداً إلى العلاقات السعودية- الهندية دشنتها الزيارة التي قام بها وزير الخارجية الهندي إلى المملكة، والتي مهدت بدورها الطريق لزيارة العاهل السعودي الملك عبد الله بين عبد العزيز إلى نيودلهي في العام 2006، وفي شهر يناير من السنة ذاتها وقع الطرفان على "إعلان نيودلهي"، إذ لم يتأخر مردود هذا التقارب فتحولت السعودية مباشرة بعد التوقيع على الإعلان إلى المورد الأكبر للهند فيما يتعلق بالنفط متجاوزة بذلك إيران التي كانت تلبي جزءاً مهماً من احتياجات الاقتصاد الهندي المتنامية من الطاقة. ويأتي "إعلان الرياض" ليبدأ من حيث انتهى "إعلان نيودلهي" ليبني عليه ويوسع مجالات التعاون لتشمل قطاعات مهمة مثل الاقتصاد والأمن والدفاع. وقد صاحب الزيارة الهندية للسعودية إشارات تطفح بالدلالات الرمزية، مؤكدة الرغبة التي تحدو الطرف السعودي لاستغلال الانفتاح الهندي وتشجيعه، ومن أبرز تلك الإشارات الاستقبال الحافل الذي حظي به رئيس الوزراء، مانهومان سينج، حيث وجد في انتظاره كل من ولي العهد الأمير سلطان بن عبد العزيز، والأمير نايف بن عبد العزيز، والأمير سلمان بن عبد العزيز بالإضافة إلى الحكومة السعودية في خروج عن البروتوكول، وهو ما سجله الجانب الهندي بكثير من الإعجاب والتقدير واصفاً الاستقبال بأنه كان "غير مسبوق"، وقد تم التوقيع خلال هذه الزيارة على ثمانية اتفاقيات ومذكرات تفاهم هي الأولى من نوعها في تاريخ العلاقات بين البلدين وتضمنت شتى الميادين من التعاون في مجال تكنولوجيا الفضاء إلى باقي القطاعات العلمية الأخرى. ولم يفوت رئيس الوزراء الهندي في خطابه الذي ألقاه أمام مجلس الشورى السعودي التأكيد على الدعم المتواصل الذي تقدمه الهند للشعب الفلسطيني لنيل حقوقه، مشيراً إلى أن قضية السلام في الشرق الأوسط مهمة، ولا يمكن تجاوزها لضمان الاستقرار في المنطقة قائلًا "لفترة طويلة من الزمن حُرم الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة والثابتة، بما فيها إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة، وقد كانت الهند على الدوام مشاركة في تطوير الاقتصاد الفلسطيني وموارده البشرية وسنواصل دعمنا دون كلل". لكن أهم ما خرجت به الزيارة التوقيع على "إعلان الرياض" الذي رفع العلاقات الثنائية إلى مستوى التعاون الاستراتيجي، وبالنسبة للهند فهي تحتاج إلى المساعدة السعودية في مكافحة الإرهاب القادم من المناطق الحدودية بين أفغانستان وباكستان، وهو الانشغال الذي تتفهمه الرياض لأنها عانت نفسها من هجمات إرهابية فوق ترابها وقطعت أشواطاً مهمة في تجفيف منابعه والقضاء عليه. ومن هذا المنطلق، تنظر الهند إلى السعودية كلاعب إقليمي مهم قادر على التأثير في باكستان وإقناعها بانخراط أكبر في التصدي لآفة الإرهاب مع الإقرار بأنه لا لون ولا دين لمرتكبيه وبأنه بات ظاهرة عالمية عابرة للحدود. هذا الإدراك لعالمية الإرهاب وعدم اقتصاره على دين بعينه، أو حضارة بعينها أكد عليه إعلان الرياض الذي جاء فيه إن "ظاهرة الإرهاب والتطرف والعنف ذات طبيعة عالمية وتهدد جميع المجتمعات دون أن ترتبط بلون أو عرق أو معتقد بعينه". وبالإضافة إلى مسألة التصدي للإرهاب التي تنطوي على أهمية كبرى بالنسبة للبلدين معاً، فقد اتفق الجانبان أيضاً على بلورة استراتيجيات مشتركة لمكافحة الأنشطة غير الشرعية مثل تبييض الأموال وتهريب المخدرات وتجارة الأسلحة والبشر.