يمثل النموذج الأميركي، كما هو معروف، واحداً من أكثر نماذج الحراك الديمقراطي حيوية على مستوى العالم بأسره.. بيد أن الطريقة التي يتصرف بها مشرعوها تجعل البعض، من غير الأميركيين، ينظر إلى هذا النموذج على أنه محير للغاية، وليس في هذه النظرة ما يدعو للعجب. فلو نظرنا مثلا إلى الوضع السياسي الحالي في واشنطن، والتطورات التي قادت إليه، فسنجد أن أوباما كان قد خاض حملته الانتخابية الناجحة على أساس شعار "التغيير"، الذي كان يكرره في كل مكان وكل وقت أثناء حملته.. وكان الرد المعتاد الذي يجأر به أنصاره في كل مرة هو: "نعم... نستطيع". أما خصومه "الجمهوريون" في السباق الانتخابي، فقد خاضوا الحملة على أساس شعار يقول: "نحن أيضاً نستطيع التغيير".. وحينما كانوا يرددون هذا الشعار كان أنصارهم يكتفون بالقول فيما يشبه الهمس: "نعم، نأمل أن نستطيع ذلك.. ولكن ليس قبل الأوان". أما المستقلون الوسطيون، الذين يحافظون في الوقت الراهن على توازن القوى بين الحزبين الكبيرين، والذين كانوا يأملون بعد مضي عام على ولاية أوباما، أن تكون الوحدة والتعاون بين الحزبين هما الوسيلة المناسبة للتصدي للأزمات فلاشك أنهم يشعرون بإحباط شديد. و"الديمقراطيون"، بعد أن حاولوا الدفع إلى الأمام بأجندة ليبرالية شاملة إلى حد غير واقعي في السنة الأولى من ولاية أوباما، تبين لهم، بما لا مزيد عليه من الوضوح، أنهم "لا.. لا يستطيعون". ولا حاجة الآن للتذكير بأن "الجمهوريين" بعد أن خسروا البيت الأبيض، ومجلسي الكونجرس، صمموا على أن يكون ردهم على أي شيء تقترحه الأغلبية "الديمقراطية" المسرفة في الكونجرس هو الرد بالقول:" لا.. لن تفعلوا ذلك". واستراتيجيتهم في هذا كله -على ما يبدو- هي إعاقة المشروعات المقترحة من قبل "الديمقراطيين"، على أمل أن يؤدي ذلك إلى دفع الناخبين، الذين زالت عن أعينهم الغشاوة، إلى إعادة "الجمهوريين" في الكونجرس إلى السيطرة على أغلبية المقاعد في أواخر هذا العام، بل وإعاقة أي محاولة من جانب أوباما لإعاده انتخابه مجدداً. والخطر الذي يمكن أن يواجه "الجمهوريين"، هو أن الناخبين المستائين قد يلومونهم لتسببهم في تعطيل الأمور أكثر مما يلومون "الديمقراطيين" بسبب افتقارهم للإنجاز. والحال أن معظم الناخبين الأميركيين يشعرون في الوقت الراهن بالغضب بسبب حزمة أمور منها: (أ) ملايين الوظائف الضائعة. (ب) الدَّين القومي المذهل الذي سينتقل عبء سداده إلى أبنائهم وأحفادهم. (ج) مديرو البنوك الكبيرة الذين يحصلون على مرتبات تقدر بعدة ملايين سنوياً نظير أداء مشكوك في فاعليته. (د) الجمود السياسي في واشنطن على كافة المستويات. والراهن أن المزاج العام للأمة لن يتحسن عملياً بما يقدمه معلقو التلفزيون من ذوي الشخصيات الأكثر جاذبية -ربما أكثر من السياسيين- الذين يحاولون الإيحاء بأن الإدارة الحالية تقود البلاد إلى مستقبل كارثي، كما لم يتحسن بالتأكيد بما يفعله مسؤولو البيت الأبيض الذين يصفون كل من يختلف معهم بأنه "متخلف عقلياً". وكما جرت العادة عبر السنين، يميل الحزبان الرئيسيان في الولايات المتحدة، سواء كانا في السلطة أو خارجها، إلى أن يكونا أكثر دعماً للرؤساء الموجودين في الحكم في شؤون السياسة الخارجية أكثر من دعمهما لهم في شؤون السياسات الداخلية، على أساس أنه من غير اللائق أن يظهر الأميركيون خلافاتهم الداخلية أمام العالم، ولكن من المقبول أن يختلفوا أشد الاختلاف حول مسائل ترتيب بيتهم الداخلي. ويمكن وصف إرسال أوباما للمزيد من القوات إلى أفغانستان، بأنه تدبير يحذو إلى حد كبير حذو بوش.. وخاصة أن تصريحاته الصارمة عن تنظيم "القاعدة" والإرهاب تقابل بالتأييد من جانب السواد الأعظم من الأميركيين. وقد نجا أوباما من النقد الشديد حول تعامله المثير للجدل مع موضوع إغلاق معتقل جوانتانامو، وحول استجواب الإرهابي الذي حاول تفجير الطائرة عشية يوم الميلاد، وكذلك حول الخطة -المهجورة الآن- لمحاكمة كبار إرهابيي "القاعدة" في مبنى محكمة فيدرالية لا يبعد سوى مرمى حجر عن مسرح كارثة الحادي عشر من سبتمبر (وربما يرجع ذلك إلى أن وزير العدل في إدارته "إيريك هولدر" هو الذي ينظر إليه على أنه الرجل الذي كان وراء كل تلك الخطوات). وعلى رغم أن خطابي أوباما في إسطنبول والقاهرة، اللذين سعى فيهما للتقارب مع العالم الإسلامي كانا مصوغين بشكل جيد كما حظيا بقبول حسن، فإن يده الممدودة بالصداقة لم تقابل بالمثل في العالم العربي حتى الآن، كما لم تقابل بالمثل أيضاً من قبل الخصوم العنيدين من غير العرب مثل كوريا الشمالية وإيران اللتين لم يقصر أوباما في مساعي التقارب معهما أيضاً. ولم يقتصر الأمر في هذين البلدين على عدم الترحيب باليد الأميركية الممدودة، بل نجد أيضاً أن بيونج يانج قد قابلت تلك اليد بتطوير أسلحة ذات قدرات نووية، وأن إيران طورت من قدراتها الصاروخية وأثبتت أنها قادرة خلال فترة ليست ببعيدة على إنتاج رأس حربي. علاوة على ذلك أثبت الكوريون الشماليون براعتهم الفائقة في صد المحاولات الأميركية والأوروبية والصينية لإقناعهم بالتخلي عن برنامجهم النووي، وليس هناك من شك في أن إيران وهي مفاوض صعب قد تأثرت هي أيضاً بالنموذج الكوري الشمالي، وربما تأمل في تقليده. وعلى رغم أن الصين هي أكبر المودعين في البنوك الأميركية، إلا أن علاقتها مع إدارة أوباما تعتبر علاقة قلقة وخصوصاً أنها تسعى جاهدة لنيل الاعتراف بها كقوة عالمية كبرى. وفي كل هذه الملفات وغيرها من التحديات الدولية، يعوّل أوباما على دعم الحزبين في الداخل، وسيكون الأمر جيداً للغاية لو أن الطرفين "الديمقراطي" و"الجمهوري" تمكنا من تحقيق اتفاق ثنائي مماثل بشأن التحديات الداخلية المهمة التي تواجه الأمة الأميركية. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور".