ظاهرياً تبدو أوروبا قارة قوية للغاية، فبعد الحروب التي مزقتها قرون طويلة، ثم الانقسام الحاد وحتى الاستقطاب أثناء الحرب الباردة وإلى تسعينيات القرن الماضي، تعيش القارة الأوروبية سنوات التآلف والوحدة، وأصبح أعداء الأمس حلفاء اليوم، وهكذا دخلت دول أوروبا الشرقية ليس فقط حلف شمال الأطلسي، بل أيضاً الاتحاد الأوروبي، لتصل أعداد هذا الاتحاد في أقل من عقدين إلى 27 عضواً، وليست الزيادة عددية أو كمية فقط، بل نوعية أيضاً، فمثلاً انضمت ألمانيا الشرقية إلى الغربية لتكوّنا ألمانيا الموحدة، ولتصبح هناك قوة اقتصادية عالمية عظمى في هذه الدولة الواحدة. ومع ذلك تشعر أوروبا بالقلق، ولمداواة هذا القلق تستثمر مبالغ ضخمة في استشراف المستقبل، ليس المستقبل الأوروبي فقط، وهذا طبيعي، ولكن أيضاً وخاصة مستقبل الجيران أو المنافسين، استثمار ملايين الدولارات فعلاً لتتبع مسيرة ومسار بعض المناطق والدول التي يخشاها الاتحاد الأوروبي، وهكذا قامت اللجنة الأوروبية باستشراف مستقبل العالم حتى سنة 2025، والهدف هو التركيز أولاً على آسيا بعملاقيها حالياً في الصين والهند، وعلى أساس أن هناك اعتقادا جازما بأن القرن الـ21 لا يزال آسيوياً، وتم نشر تقرير مفصل في هذا الصدد في العام الماضي. ثم جاء الدور على الجار المباشر للاتحاد الأوروبي، وهو منطقة الشرق الأوسط، لمعرفة تضاريسها السياسية الحالية، ثم تطور هذه التضاريس في الحاضر وخاصة في المستقبل القريب نسبياً، أي هذه المرة حتى سنة 2035. وهكذا تم تصميم بحثي عن أقرب أجزاء المنطقة العربية إلى أوروبا، أي منطقة البحر المتوسط، وما يلفت النظر في هذا الإطار البحثي والذي يجمع بين أكاديميين وممارسين للسياسة، هو الإحساس الأوروبي بخطر عربي. من أين يأتي هذا الخطر؟ أساساً مما نستطيع أن نسميه القنبلة الديموغرافية أو السكانية في المنطقة العربية. فالتقارير الأوروبية الحديثة تؤكد أن عدد سكان الشعوب التي تطل على شواطئ المتوسط الجنوبية والشرقية -بما فيها تركيا إذن- تبلغ أكثر قليلاً من 300 مليون نسمة، ولكن الخطر يأتي أساساً من الزيادة السريعة لهذا العدد من السكان، فالتقارير الأوروبية تقول إن هذه الزيادة حتى سنة 2035 ستكون 25 في المئة، ليصل سكان هذه المنطقة بما فيها تركيا إلى 370 مليونا، ولكن بينما ينخفض معدل الزيادة السكانية في كل من دول الاتحاد الأوروبي وتركيا، يزداد هذا المعدل وبدرجة كبيرة في الدول العربية، حيث يصل معدل الزيادة السنوية في دول المشرق مثلاً 1.8في المئة. أهم نتائج هذه الزيادة السكانية السريعة في الدول العربية هو شبابها، فعلى عكس أوروبا التي ستزداد نسبة المسنين بين سكانها، يزداد عدد الشباب العربي، وبالتالي يزداد الطلب على المؤسسات التعليمية، وبما أن هؤلاء الشباب يودون الزواج وتكوين أسر، سيزداد الطلب على الإسكان، بما فيها الضغوط على موارد المياه والطاقة. التقارير الأوروبية تقول إن زيادة هذا العنصر الشبابي العربي قد تكون ميزة كبيرة في تنمية هذه المجتمعات، ولكن إذا تم تخطيط السياسات السليمة لتلبية احتياجات هذه الشريحة العمرية، غير أن هذه التقارير تتفق فيما بينها على أن الحكومات العربية قد تكون عاجزة عن توفير الجزء الأكبر من احتياجات الشباب الأساسية. فمثلاً تستشهد هذه التقارير بأن من سيدخلون سوق العمل العربي حتى سنة 2030 لن يقل عددهم عن 55 مليون نسمة، وبأنه في ضوء السياسات العربية الحالية لن يتم توظيف حتى نصف هذا العدد، وستؤدي زيادة البطالة إلى نتيجتين، كل منهما سيئة لأوروبا، أولا: تعاظم الحركات الاحتجاجية وحتى الانخراط في منظمات سياسية متطرفة أو متشددة. ثانياً: الهروب من المنطقة العربية إلى الشواطئ الأوروبية بحثاً عن عمل. هل هناك وجهة نظر عربية فيما يتعلق بهذا الإصرار الأوروبي على "الخطر العربي" وإبرازه؟ أين هي الجامعة العربية أو مراكز البحث وبنوك الفكر العربي من هذه الإحصائيات؟ قد تكون هذه الإحصائيات فعلاً صحيحة، وقد تكون السياسات العربية في التوظيف قاصرة، ولكن طالما أن الشيخوخة ستزداد في أوروبا، وطالما أن الشبابية في البلاد العربية في ازدياد، أليس هناك مجال للتفكير في نمط تفاعلي مختلف بين العرب وأوروبا في الحاضر والمستقبل؟ نمط تفاعلات وعلاقات يعتمد على التكامل، الاعتماد المتبادل وتبادل المنفعة كما هو الحال في مجال الطاقة مثلاً، بدلاً من الإصرار على "الخطر العربي القادم" تشجيعاً لرؤية تكرار الكلام عن هذا "الخطر القادم" تشجيعاً لرؤية بوليسية لا ترى إلا التهديد تجاه الشواطئ الأوروبية؟ وهل ستؤدي هذه الرؤية البوليسية في المستقبل القريب إلى قيام "جدار عازل" -افتراضي أو حقيقي- بين العرب وأوروبا؟