عبر السنين، دخلت إسرائيل في عدد من المواجهات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة، ولعل أخطرها تلك التي حدثت إبان حرب السويس عام 1956 عندما غزت بريطانيا وفرنسا وإسرائيل الأراضي المصرية، رغم معارضة واشنطن. وأدى ذلك الغزو إلى غضب أيزنهاور الذي شن هجوما عنيفا على بريطانيا وفرنسا، كما أجبر إسرائيل على الانسحاب من شبه جزيرة سيناء، التي كانت قد احتلتها أثناء الحرب. وفي عام 1975، وأثناء مفاوضات فض الاشتباك بين مصر وإسرائيل، والتي كان يتعين على إسرائيل في نهايتها الانسحاب من سيناء حدثت مواجهة أخرى بين إسرائيل والولايات المتحدة حول توقيت الانسحاب ومعدلاته، ما دعا إدارة جيرالد فورد في ذلك الوقت للدعوة إلى إعادة تقييم السياسة الأميركية تجاه إسرائيل. ثم جاء زمن الحرب بين لبنان وإسرائيل، وغزو الأخيرة لبيروت عام 1982 ليشهد تبادلا حادا للكلمات بين ريجان وبيجين. وفي عام 1990، شن بوش الأب وجيمس بيكر حملة صريحة على حكومة شامير بسبب أنشطتها الاستيطانية، وهددا بسحب ضمانات قروض أميركية كانت مخصصة لإسرائيل إذا لم تتوقف عن بناء المستوطنات. آخر حرب كلمات بين إسرائيل والولايات المتحدة، وهي الأخطر في نظري على الإطلاق، هي تلك التي اندلعت بينهما أثناء زيارة بايدن لإسرائيل الأسبوع الماضي عقب إعلان إسرائيل عن بناء 1600 منزل جديد في القدس الشرقية. وخطورة هذه المواجهة الكلامية تكمن في أنها تأتي في وقت تحاول فيه إدارة أوباما إعادة إطلاق المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية، مع القيام في نفس الوقت بقيادة تحالف دولي لممارسة الضغط على إيران للحد من أنشطتها النووية، كما تأتي أيضاً من أن التصرفات الإسرائيلية قد جعلت أوباما يبدو ضعيفا ومتردداً في وقت هو في مسيس الحاجة للظهور بمظهر الرئيس القوي الحاسم. وهذا تحديدا هو السبب الذي جعل رد الفعل الأميركي على رئيس الوزراء الإسرائيلي حادا وغير مهادن. ورغم أن هذا الشجار العلني قد جاء في توقيت سيئ بالنسبة لأوباما، فإن تأثيره على نتنياهو لم يكن أقل سوءاً، لاسيما أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يمر حالياً بوضع غاية في الصعوبة، حيث يجد نفسه محتارا في المفاضلة بين لوبي المستوطنات القوي الذي يشكل جزءا من تحالفه الحاكم، وبين العلاقات المتميزة من قبل الولايات المتحدة التي تعتبر الصديق الحقيقي الوحيد لدولته الذي لا يتأخر عن تقديم الدعم لها. وفي المدى القصير سوف يكون وضع قطع من الورق المقوى لسد الشقوق في العلاقة بين الدولتين أمراً كافياً، خصوصا إذا ما ذهب نتنياهو إلى واشنطن لإلقاء خطاب أمام لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية "أيباك" في مؤتمرها السنوي. لكن هذا الإجراء سوف يكون مؤقتا، ذلك أن كل إدارة أميركية منذ كارتر كانت ترى أن النشاط الاستيطاني الإسرائيلي وغيره من موضوعات الحل النهائي يجب أن تعالج، وأن المستوطنات على وجه الخصوص يجب تفكيكها أو إدماجها داخل حدود جديدة أو بقاءها على ما هي عليه ولكن تحت السيطرة الفلسطينية. ويشار إلى أن آخر ثلاث إدارات أميركية قد دعمت حل الدولتين، أي إسرائيل جنباً إلى جنب مع دولة فلسطينية قادرة على الحياة، وهو ما سيغدو أمراً يستحيل تحقيقه في حالة مواصلة إسرائيل لنشاطها الاستيطاني. وإذا ما أراد نتنياهو أن يلغي بناء الوحدات المقترحة في المستوطنات، فإن ذلك قد يؤدي إلى رد فعل غاية في السوء داخل ائتلافه الحاكم، قد يصل إلى حد إسقاط حكومته ذاتها. ومع ذلك يجب القول إنه ما لم يعمل نتنياهو على التصدي للوبي الاستيطاني، فلن يكون قادراً على تحقيق أي تقدم في المفاوضات مع الفلسطينيين الذين يرون أن المستوطنات تمثل تهديدا وجوديا لدولتهم المقترحة، وقدرتها وقدرة شعبها على حد سواء على الحياة والبقاء. السؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت الإدارة الأميركية لديها نفوذ حقيقي على إسرائيل أم لا؟ وما إذا كان نتنياهو سيمتلك الحكمة اللازمة التي ستجعله قادرا على اتخاذ القرارات الصعبة وعكس اتجاه أيديولوجيته التي يتبناها منذ وقت طويل، والتي تميل إلى إقامة المستوطنات وضم الأراضي؟ من المتوقع أن يتلقى نتنياهو العديد من النصائح: فأصدقاء إسرائيل ممن لا يؤمنون بجدوى إقامة المستوطنات على سبيل المثال، سوف يقولون له إنه هو السياسي الإسرائيلي الوحيد الذي يمتلك المقدرة على تشكيل الائتلاف الذي سيمكنه من اتخاذ القرارات الصعبة، التي سيحتاج إليها الوضع، وأنه ليس هناك سياسي إسرائيلي آخر في الظرف الراهن لديه القدرة على كسب الأصوات اللازمة لتمرير مثل هذه القرارات، وتحقيق النجاح في نهاية المطاف. والسؤال هنا أيضاً هو: هل يمكن لنتنياهو أن ينجو من احتمال حدوث أزمة في تحالفه الحاكم، إذا ما أقدم على اتخاذ ذلك الخيار؟ الإجابة هي أن نتنياهو كي يحافظ على منصبه سيجد نفسه مضطرا لإعادة "تسيبي ليفني" وحزب "كاديما" لائتلافه، خصوصا إذا ما هجرته الأحزاب اليمينية المتطرفة مثل حزب "شاس" و"إسرائيل بيتنا". في تلك اللحظة، سوف تحدث مواجهة ملتهبة بين اللوبي الاستيطاني، وبين هؤلاء الإسرائيليين الذين يعرفون في قرارة أنفسهم أن التخلي عن معظم أراضي الضفة الغربية وإيجاد طريقة لتقسيم القدس، هي السبيل الوحيدة التي سيتمكنون من خلالها من تحقيق التسوية مع العالم العربي. فعلى الرغم من أن إسرائيل تمتلك اقتصادا قويا ونابضا، إلا أن الحقائق الديموغرافية تقول بأنها ما لم تتمكن من إيجاد حل للمسألة الفلسطينية فإنها سوف تجد نفسها في مواجهة خيار صعب، وهو: إما أن تكون دولة ديمقراطية حقاً، وإما أن ترضى بالتحول إلى دولة يهودية سلطوية. ومن هنا قولنا إن هذه اللحظة هي لحظة حرجة لنتنياهو بالذات ربما أكثر من أي شخص آخر.