لطالما ارتكزت العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل على مجموعة من الإدعاءات المغلوطة والتصورات الخاطئة، وإن كانت مفيدة من الناحية السياسية للطرفين معاً ما يبرر استمرارها. لكن بما أن هذه التصورات غير صحيحة وزائفة فهي تنطوي على أخطار حقيقية لهما معاً كذلك. وقد بدأت الأخطار بالفعل بعدما شرعت الإدعاءات المغلوطة في السقوط، وذلك لعوامل خارجية وغير متوقعة. فمع انشغالها بمصالحها الخاصة التي تعبر عنها الأيديولوجية التوسعية للصهيونية العلمانية، وبتحالفها مع رديفتها على الجانب الديني المتطرف، تكون حكومة نتنياهو قد تحولت إلى عقبة أمام تأمين التواجد العسكري الأميركي في الشرق الأوسط، وإلى تهديد لمصالح الولايات المتحدة وأمن قواتها في عموم العالم الإسلامي. ومع أن هذه الحقيقة كانت معروفة منذ عدة سنوات، فإنها لم يُعترف بها إلا مؤخرا من قبل القادة العسكريين، ولعل ما يدلل على هذا الإدراك المتأخر ما نقله "مارك بيري" في الموقع الإلكتروني لمجلة "شؤون خارجية"، من إرسال الجنرال ديفيد بتراويس لفريق عسكري لإطلاع هيئة الأركان المشتركة، في 16 يناير الماضي، على التصرفات الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين وتأثيرها السلبي على القوى الإسلامية، سواء تلك المتعاونة مع الولايات المتحدة أو المحاربة لها، بحيث تدفعها السياسة الإسرائيلية في المنطقة إلى الخروج بخلاصة مفادها أن الولايات المتحدة باتت ضعيفة وموقفها العسكري أصبح هشاً بسبب تواطئها مع التعنت الإسرائيلي في التعامل مع القضية الفلسطينية. وعندما اطلع البيت الأبيض على هذا الموجز كانت الصدمة كبيرة، ولم يكن مبعث هذه الدهشة الحقيقة التي كانت معروفة من قبل بقدر ما كانت الطبيعة الاستعجالية التي بدت على القادة العسكريين وهم ينقلونها إلى المسؤولين في واشنطن، وهو ما يفسر إلى حد كبير الاستياء والغضب اللذين قابل بهما بايدن وهيلاري، الإهانة المقصودة التي وجهها رئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الولايات المتحدة عندما أعلن عن بناء 1600 وحدة استيطانية في الأحياء العربية بالقدس الشرقية والتي تعتبر حسب القانون الدولي جزءاً من الأراضي المحتلة التي لا يجب العبث بها. وقد جاءت هذه الخطوة المستفزة بالتزامن مع زيارة نائب الرئيس الأميركي، بل إن نتنياهو تمادى في تحديه للإدارة الأميركية عندما عبر عن أسفه على "توقيت" الإعلان، لكنه رفض الاعتراف بجدوى الاحتجاج الأميركي على بناء المستوطنات داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة. والحقيقة أن العلاقة بين الجانبين، بالإضافة إلى الحوار بينهما في السياسية الخارجية، كان دائماً يتأسس على جرعة زائدة من النفاق والتدليس، ففي 29 سبتمبر 2008 كتب "إيتان برومور" في صحيفة "نيويورك تايمز" أن "رئيس الوزراء إيهود أولمرت صرح في مقابلة بأنه يتعين على إسرائيل الانسحاب من جميع أراضي الضفة الغربية، بالإضافة إلى القدس الشرقية، للوصول إلى سلام مع الفلسطينيين". وهو اعتراف كان معروفاً على الدوام لدى كل سياسي إسرائيلي وأميركي يتحلى بقدر من الواقعية، لكن مع ذلك لم يجرؤ أولمرت على التلفظ به إلا بعد مغادرته لمنصبه. وللسبب نفسه، قام شارون بإخلاء المستوطنات من غزة، قائلا إنه تستحيل السيطرة على السكان الفلسطينيين الذين يفوق عددهم السكان الإسرائيليين، وبالطبع لم يمهله القدر طويلا لاستكمال خطته بعدما دخل في غيبوبة لم يخرج منها بعد. واليوم يأتي نتنياهو ليثير، حسب تعبير السفير الإسرائيلي في واشنطن، أسوأ أزمة بين البلدين منذ ثلاثة عقود، فلحد الآن تدعي الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أمام العالم أن مصادرتها للأراضي الفلسطينية طيلة هذه المدة ستُحل بطريقة سلمية ضمن اتفاق نهائي لإقامة الدولتين. وتتظاهر أميركا بتصديق هذا الإدعاء في الوقت الذي تعوض عن هذا الموقف برفضها الاعتراف بالتوسع الإسرائيلي في الأراضي المحتلة. لكن يبقى الإدعاء الأهم والأخطر ذلك الذي يعتبر أن المصالح الإسرائيلية والأميركية تتلاقى في المنطقة، والحال أنهما تتنافران بشكل كبير، فالمصالح الأميركية في المنطقة تتمثل في الحفاظ على علاقات جيدة مع الدول العربية المنتجة للنفط التي ستظل متشككة في النوايا الأميركية طالما لم تحل قضية فلسطين، كما أن المصلحة الأميركية تشمل إقامة سلام بين إسرائيل وجيرانها التي يحول دونها رفض الحكومات الإسلامية الاعتراف بإسرائيل وإضفاء الشرعية عليها ما لم تتفق الدولة العبرية مع الفلسطينيين وتنهي الصراع في المنطقة، وما لم يتحقق ذلك، يقول القادة العسكريون الذين أطلعوا مسؤولي واشنطن على الوضع في الشرق الأوسط، فالمرجع أن تتصاعد عداوة المسلمين، لاسيما في الشرق الأوسط وجنوب آسيا، للولايات المتحدة، كما أن الحروب التي تشنها أميركا ضد بعض الجماعات سينظر إليها كحرب إمبريالية ضد الإسلام. وحالياً يبدو أن إسرائيل غير قادرة على تحديد ماذا تريد على وجه الدقة بسبب انقسام شعبها حول المصالح الدائمة لها، فهناك تحالف بين الصهيونية العلمانية الداعية للتوسع وبين المتشددين المتدينين الذين يؤمنون بأرض إسرائيل الكبرى الممتدة من النيل إلى الفرات، لكن على الأرجح تساند غالبية الشعب الإسرائيلي التوصل إلى اتفاق مع الفلسطينيين يضمن لهم الأمن ضمن حدودهم الحالية لو فقط توفرت الحكومة القادرة على ترجمة هذه الرغبة إلى واقع. ويبقى التذكير أن المؤتمر السنوي للجنة الأميركية الإسرائيلية للشؤون العامة "آيباك" سينعقد خلال الأسبوع المقبل، ولا شك أنها ستكون فرصة لمتابعة كيف ستؤول إليه الأمور بين الجانبين في ظل التطورات الأخيرة. ------ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "ميديا تريبيون سيرفسز"