حصر د. سعدون حمادي سبل تحقيق الوحدة العربية عندما تحدث في ندوة المشروع النهضوي التي عقدت في المغرب عام 2001، بسبيلين: العمل السياسي العلني المؤسساتي ضمن القنوات والهيئات العربية المعروفة، أو اللجوء إلى "مسار الثورة"، ورفض شرعية الدولة القطرية. وبعد أن عقب على ورقته الأستاذ معن بشور، رئيس المنتدى القومي العربي، جاء دور المؤرخ المعروف د. علي محافظة، أستاذ العلوم الاجتماعية بالجامعة الأردنية، وصاحب العديد من المؤلفات، أحد أبرزها "الاتجاهات الفكرية عند العرب في عصر النهضة" طبع مراراً منذ ظهوره عام 1975. وقد لاحظ د. محافظة في البداية أن الشروط التي وضعها د. حمادي لنجاح العمل العربي المشترك هي "العراقيل الرئيسية التي أعاقت العمل العربي المشترك وشلته"! فمن المعروف، أضاف شارحاً، "أن أنظمة الحكم العربية الحالية تختلف في نشأتها اختلافاً واضحاً. ورافق هذه النشأة مواقف من بعض هذه الأنظمة نحو بعضها الآخر تراوحت بين العداء والمعارضة من جهة، والتأييد والمساندة من جهة أخرى، أو اللامبالاة، وتكونت خلال العقود الخمسة الأخيرة محاور وتحالفات واتحادات... ورافق ذلك كله توترات ومؤامرات وحشود عسكرية وتدخل عسكري واحتلال لأراض وحملات إعلامية تركت أثراً سلبياً ما زال عالقاً في نفوس الحاكمين حتى اليوم وأدى إلى فقدان الثقة بينهم". ولكن كيف يمكن بناء الثقة بين هذه الحكومة أو "أنظمة الحكم العربية"، إن أردنا توحيد العرب أو زيادة تلاحمهم؟ د. محافظة بدا أشد تشاؤماً ويأساً وهو يعالج هذه النقطة! "أعتقد أنه يستحيل بناء الثقة بين هذه الأنظمة في وضعها الراهن. إن هذه الأنظمة كلها، ولا استثني أحداً، عجزت وما زالت، عن بناء الثقة في الأقطار التي تحكمها بينها وبين شعوبها، فهل باستطاعتها أن تبني الثقة فيما بينها؟ أما القول إن العمل التطوعي بين الأنظمة العربية قد يفضي إلى العمل المشترك، فتجربة نصف قرن في هذا الميدان لا تبعث على التفاؤل". ثم إن العالم الخارجي ودوله الكبرى كذلك، في رأي د. محافظة، ستقاوم العمل العربي المشترك. ولكن لماذا تثير الأهداف العربية الوحدوية عداء الأمم المحيطة بها ومخاوف دول العالم الكبرى؟ ولماذا لا يدرس الباحثون العرب هذه الظاهرة ويعملون على شرح الأسباب وبيان سبل كسب ثقتها إلى أقصى حد ممكن؟ ولماذا لا نتحدث عن الوحدة العربية إلا كـ"ضربة موجهة" للأعداء، وكخطوة لـ"تطهير المنطقة العربية من نفوذهم"؟ لماذا لا نقوم بتفكيك مخاوف هؤلاء المعادين والمرتابين، وندرس ما هو مفيد ومشترك للطرفين، ونتجنب ما يثير غضبهم؟ لماذا لا نقيم مثلاً علاقات وثيقة بمؤسساتهم وشركاتهم وصناعاتهم وجامعاتهم وبرلماناتهم، ونبين لهم بوضوح وموضوعية أن التقارب والعمل المشترك بين العرب قضية تنموية حضارية عولمية، لا علاقة لها بالأفكار الراديكالية والثورية السابقة؟ للأسف، لم يعد الوقت في صالحنا في كل هذه المجالات، ومع كل هذه الدول والقوى والمؤسسات. كما أن العديد من الدول العربية هي نفسها تعاني من الأزمات الطاحنة. ولو سعت بعض الدول العربية إلى وضع برامج طموحة وعصرية في مجال تحديث بلدانها لما تدخل أحد في شأنها، بل ربما لم يشعر بمثل هذه الخطوات أحد! وربما كنا لا نزال أسرى "الوحدة الدرامية" السريعة الفورية الصاخبة، والتي تعلو شعاراتها وقت الأزمات بالذات، ولا تأخذ بالاعتبار تعقيدات التنسيق والتوحيد بين مؤسسات وهيئات ووزارات أكثر من عشرين دولة وقيادة وشعبا! ونعود تأييداً لحديثنا هذا، إلى تعقيب د. محافظة على ورقة د. سعدون حمادي، فنرى المؤرخ الأردني يقول:"يُعرب د. حمادي عن أمله في أن تسلك البلدان العربية السبيل الذي سلكته دول الاتحاد الأوروبي، ونسي أن هذه الدول حينما بدأت مسيرتها منذ عام 1957، حرصت على ألا ينضم إلى السوق الأوروبية المشتركة إلا الدول التي تعتمد نظاماً سياسياً ديمقراطياً ونظاماً اقتصادياً متماثلاً (اقتصاد السوق)، وألا يتم الانضمام إلى السوق أو إلى أي اتفاقية من اتفاقياته إلا بعد استفتاء شعبي عام، أي بموافقة أكثرية شعب كل دولة. أما السبل التي انتهجتها البلدان العربية في إنشاء السوق العربية المشتركة وإبرام اتفاقية التجارة الحرة العربية الكبرى، فبعيدة كل البعد عن المشاركة الشعبية". ويكمل د. محافظة حديثة مشيراً إلى مشاريع التعاون الأخرى فيجزم بأنه "ما لم يتوافر الأمن الداخلي والاستقرار السياسي في البلدان العربية الراغبة في التعاون والعمل العربي المشترك ستبقى كل مشاريع العمل المشترك عرضة للفشل". ولا شك أن ملاحظة د. محافظة بخصوص شرعية أنظم الحكم العربية ومدى حماس الأنظمة الثورية للوحدة قد هزمت أطروحة د. حمادي حول الثورة والوحدة الاجبارية بالقوة، من الأساس. فسعدون حمادي يؤكد أن الدولة القطرية بنظامها وهيئتها السياسية الحاكمة "تقف الآن ضد الوحدة، وتعمل على تقوية وضع التجزئة". ولكن د. سعدون يرى كذلك "أن الانقلابات العسكرية التي أدت إلى تغيير الفئة الحاكمة في الدولة القطرية لم تؤد إلى تغيير مهم في الموقف من الوحدة". وهذه الملاحظة صحيحة، يقول د. محافظة، "وكنت أتمنى لو بيَّن لنا أسباب ذلك، ولا سيما في الأقطار التي استلمت الحكم فيها أحزاب قومية عربية كان شعارها الأول الوحدة العربية". ولو كان د. حمادي جاداً في طرحه وتحليله لعوائق الوحدة العربية لتوقف طويلاً عند هذه الحقيقة المرة، إذ كيف يمكن تفسير هيمنة حزب قومي قوي على دولتين عربيتين متجاورتين بينهما الكثير مما هو قابل للربط والوحيد، وتفشل الوحدة؟ وينتقل د. محافظة في تعقيبه إلى قضية أخرى لا تقل خطورة ومرارة في التجربة العربية، وهي عداء بعض البلدان العربية فيما بينها وبخاصة ضد أي تكتل مجاور لها. فالتجربة العربية، يقول د. محافظة، "علمتنا أن قيام الوحدة بين قطرين عربيين يستدعي بالضرورة تكتل دول أخرى ضدها". فكيف يمكن البدء في عملية التوحيد، مهما كانت درجاته، دون إثارة حفيظة دول الجوار العربية؟ وإذا كان لابد لنا من دروس وعظات من التاريخ، يقول المؤرخ، "فتجربة السوق الأوروبية المشتركة ماثلة أمامنا. ففرنسا وألمانيا وهولندا وبلجيكا وإيطاليا ولوكسمبورج لم تجعل عاصمة الوحدة باريس أو روما أو بون، وإنما اختارت بروكسل. وكذلك الحال بالنسبة إلى بقية مؤسسات ومنظمات الاتحاد الأوروبي. وما لم يشعر كل قطر عربي أنه يتمتع بالحقوق نفسها التي يتمتع بها أكبر هذه الأقطار ...لن يُكتب النجاح للعمل العربي المشترك". ويختتم المؤرخ تعقيبه بالإشارة إلى "الفكر القومي" نفسه ومدى استيعابه لتعقيدات قضية الوحدة في القرن الحادي والعشرين بعد كل هذه التجارب. وكان د. حمادي قد لاحظ على الفكر العربي الراهن "أنه على العموم يُرجع صدى الأحداث بدلاً من قيادتها"، وأن ما يتردد عن تجديد الفكر القومي يقصد به "الابتعاد عن الفكر القومي وقبول الواقع". ويرى د. محافظة أن هذه الملاحظة حول الفكر القومي الراهن صحيحة، ولكن المطالبة بالتجديد في محلها. ويضيف المؤرخ الأردني "أن التجديد قد بدأ منذ سنين بالدعوة إلى ربط المشاريع القومية بتوفير الحريات الأساسية للأفراد والشعوب، والالتزام بحقوق الإنسان، ومشاركة الشعوب في الحكم وفي اتخاذ القرارات المصيرية التي تتعلق بمستقبلها". ومثل هذه الاتجاهات التجديدية يصعب أن تجد آذاناً صاغية من المنتمين إلى مدرسة سعدون حمادي ورفاقه!