في صيف عام 2009 كان العمال يحفرون في قبو كنيسة في مدينة جليبوكا في روسيا البيضاء، حين تعثروا بهياكل عظمية كثيرة، لا يضمها قبر ولا يلفها كفن، لجثث تكدست بعضها فوق بعض. وإذ شد الفضول العمال، فقد توالى ظهور الهياكل حتى بلغ عددها الثلاثين. تكتمت سلطات روسيا البيضاء على الخبر، لكن الحكومة البولندية طالبت بالتحقيق في الموضوع. ويذهب المؤرخ "إيجار كوتشنياكو" إلى أنها من بقايا عمليات الإعدام الجماعية التي قامت بها الاستخبارات الروسية. ففي مطلع عام 1940 وقع ساطور الرعب على رقاب 22 ألفا من البولنديين قبل أن يذبحوا بأوامر من ستالين مباشرة، وذلك إثر اتفاقية تقسيم بولندا الموقعة بين وزيري الخارجية الشيوعي "مولوتوف" والنازي "ريبنتروب". ألقت المخابرات الستالينية القبض على أولئك الشباب وقتلت معظمهم في غابات "كاتين"، ثم حفرت الحفر والأقبية حيث شحطت الأجساد ورميت في قبور جماعية! ولأن روسيا البيضاء مرتبطة ارتباطاً عضوياً بموسكو، ونظراً لحساسية قضايا التهم التاريخية، فقد تجاهلت طلب الحكومة البولندية. لكن رغم ذلك فإن جورباتشوف الذي أنهى الحقبة الشيوعية، كان قد تقدم في عام 1990 باعتذار للحكومة البولندية. كثيرة هي القبور الجماعية، من قبور بول بوت، وصدام حسين، وفظائع البوسنة وسيبرينتشكا، وضحايا المايا، ومحن السجون والمعتقلات في بعض الدول العربية حيث مات ويموت الآلاف من خيرة الشباب، ضربا وشنقا وخنقا وسما وحرقا ومرضا بالسل والجرب! وليرحم الله "توفيق دراق"، طبيب الأعصاب، و"قاسم الططري"، أستاذ الجغرافيا، اللذين كانا من ضحايا تلك السجون الرهيبة. وفي عام 1982 أعلنت إسبانيا كشف ألف هيكل في قبو كنيسة ارتسمت بقايا الرعب على مفاصل أصحابها وقسمات وجوههم. ولطول المسافة فقد نسب كل واحد لنفسه أنه الضحية، هكذا قال اليهود، بينما ذكر المذيع الألماني إنهم "مساكين إسبان من ضحايا الاضطهاد العربي"! لكن الأموات لا يتكلمون وإلى المحاكم لا يحضرون. ومن سيحدد الضحية والجلاد إنما هي الدراسة المتأنية، كما فعل "ستيفان تالتي" مع مقبرة ليتوانيا. فقد كُشف قبر جماعي في فيلنيوس (عاصمة ليتوانيا)، أيضا بمحض الصدفة، حين ضرب معول عامل في أساس بناية، فتدحرجت الهياكل تترى، ليصل الرقم إلى ألفي هيكل، من عظام لشباب قضوا نحبهم في البرد هناك. وشرح "تالتي" في كتابه "الموت مصورا"، ظروف موتهم، موضحاً أنهم من جيش نابليون العظيم، وأنهم هاموا على وجوههم في الطريق إلى ليتوانيا خلال العودة من حملة على روسيا. وهناك في فيلنيوس اقتحموا كلية الطب وبدأوا بالتهام بقايا الجثث المحفوظة في سائل الفورمالين. وعرف "تالتي" من أزرار وبقايا ملابس الجنود أنها تعود للشباب الفرنسي في حملة على روسيا عام 1812، وهي أعظم وآخر حملات نابليون التي صنعت نهايته وقذفته إلى جزيرة هيلانه فمات مسموما بالزرنيخ على يدي أعز أصدقائه! كان ستالين يقول إن قتل شخص تراجيديا، أما قتل مليون فهي مسألة إحصائية، ويبدو مرة أخرى جدل الإنسان وقسوته اللامحدودة متمثلة في القتل الجماعي. لكن ماذا لو كان إنسان واحد مشروع إعمار مجرة كاملة؟ لقد عبر القرآن عن هذه الفكرة بالقول "إن إبراهيم كان أمة"، وقد دعا ربه أن يمد هذه البركة في ذريته من بعده؛ فقال الله: "لا ينال عهدي الظالمين".