قد يفاجأ الذين أعلنوا موت الصحف بعد ولادة الإنترنت بالدراسة التي أعدها مركز أبحاث "بيو" في الولايات المتحدة من أن معظم التقارير الإخبارية الحقيقية ترد من الصحف، وأن كل ما تفعله المواقع الإخبارية في الإنترنت هو تكرار تلك التقارير والتعليق عليها من دون تقديم أي معلومات جديدة، وأن 95 في المئة من المعلومات ترد من الإعلام التقليدي خصوصاً الصحف الورقية. إذا كان الإعلام الإلكتروني الإخباري في أميركا مجرد ماكينة اجترار، فإن الحال مع الإعلام الإلكتروني الإخباري العربي أسوأ بكثير، خصوصاً أن الصفحات العربية على الإنترنت قليلة تبلغ نحو 323 ألف صفحة من مجموع 20 مليون صفحة إلكترونية بنسبة لا تتجاوز 1,6في المئة. وإذا كان هذا حال الإعلام الإلكتروني الأميركي الذي يتمتع بنوع من المصداقية ويمكن الوصول إلى القائمين عليه بسهولة وتقديمهم للعدالة، فما بالكم بالمواقع العربية التي، بخلاف عدم تقديمها المحتوى الجديد، فإنها تفتقر إلى المصداقية أصلاً، لأنها تعرف أن مقاضاتها على نشر الأكاذيب يحتاج إلى جيش من المحامين والخبراء التقنيين. وبوجود الإنترنت، لم يعد هناك معنى للعبارة الشهيرة "كلام جرايد"، التي تعطي الانطباع بأن أخبار الصحف يجب ألا تؤخذ على محمل الجد أو التصديق، فأخبار الإنترنت لا تؤخذ على محمل الجد بصورة أكبر، وسلام الله على كلام الجرايد في مقابل كلام الإنترنت. ويمكن أن تتفوق المواقع الإلكترونية على الصحف في مقالات الرأي فقط، لأن الصحف لديها هامش محدود من الحرية بينما الحرية في الإنترنت بلا سقف معلوم، لكن المقال الإنترنتي نفسه إذا تضمن معلومات ووقائع، فإنه حري بأن يدخل الشك فيه. وشخصياً لم أعد أثق بالإنترنت، ولي تجارب مع "أخبار" وقصص وتحليلات إنترنتية توصلت من بعدها إلى مبدأ في التعامل مع الإنترنت، وهو أن المحتوى الذي أراه أمامي غير صحيح إلى أن يثبت العكس، أو في أفضل الأحوال أنه إشاعة، قد تكون صحيحة وقد تكون مجرد هراء. حدث هذا مع أكثر من مقال نشرته في الصحف فإذا به متداولاً في الإنترنت لكنه منسوب لأشخاص آخرين أو بلا نسبة لكن بعد تحريفه. ومثل هذا قد يحدث في الصحف أيضاً، لكن الفارق أنك في الصحف تستطيع إبراز الصفحة التي نشرت مقالتك وفوقها تاريخ النشر، بينما في الإنترنت يمكن التلاعب بسهولة في تاريخ النشر، ويمكن بسهولة أيضاً، وفي مفارقة عجيبة، أن يتهم السارق صاحبه بأنه هو الذي سرقه مقالته، ولا يمكن الفصل بينهما بسهولة. وحدث مثل هذا في أكثر من مناسبة حين كنت شاهداً أو طرفاً أو أعرف بحكم خبرتي ومجال عملي في قضية ما، أن وقائع القصة التي يرويها الإنترنت غير صحيحة أو غير دقيقة أو متلاعب بها. ولا تكتفي هذه المواقع بالاجترار من الصحف وإنما ينقل بعضها عن بعض نقلاً كاملاً حتى في علامات الترقيم، ويكفي أن تضع في محرك البحث عبارة "الأحلام" مثلاً، لتجد عشرات المواقع العربية تنقل الكلام نفسه حرفياً. وهذا لا يعني أن الصحف منزّهة عن كل هذا، لكن الذي يعطي الصحف أفضلية على الإنترنت من هذه الناحية هو أن الصحيفة في النهاية لها مقر معروف، وهيئة تحرير مسؤولة عن كل كلمة تكتب في الصحيفة، ويمكن أن تُحاسِب وتُقاضي هؤلاء "الملموسين"، بينما لا يمكن أو يصعب الوصول إلى الأشخاص "الافتراضيين". وإذا أضيفت مسألة متعة قراءة الأخبار من الصحف والبريق الذي تحدثه الصورة الورقية إلى إيجابيات الصحف المكتوبة فإنه يمكن أن نزف البشرى للصحف بطول السلامة.