على مدى التاريخ كانت هنالك عواصم وبلاد محددة في العالم تؤثر على المحيط العام أو الحيز الجغرافي الذي تعيش فيه. وكان ما يحدث في مصر أو سوريا أو الجزائر مثلاً -في الخمسينيات- نجد له أصداء وتفاعلات في مناطق أخرى من العالم. وقد عُرفت عواصم محددة في العالم ببث حملات التنوير ونماذجها -في مجال الاختراعات والعلوم والثقافة والفنون- إلى العالم مثل لندن وباريس وطوكيو. واليوم نلاحظ -على المستوى الخليجي- أن ما يجري في دولة الكويت نجد له صدى في بقية بلدان مجلس التعاون! فالكويت صدّرت الفن الغنائي والتلفزيوني إبان عقدي السبعينيات والثمانينيات. كما صدر لبنان الأناقة -بحكم تقاربه مع عواصم التنوير الأوروبية- تماماً كما صدّر الجمال والحرية (المنضبطة والمنفلتة) على السواء! وكانت الكويت من أبرز دول مجلس التعاون الخليجي تعاملاً مع قضايا الرأي ومتابعة التحول الديمقراطي وحرية التعبير. وقد حدثت عدة مقاربات في هذا المجال، في بعض دول مجلس التعاون، وإن كانت بدرجة أقل ضجيجاً مما يحدث في دول أخرى. فلقد دخل الإعلام المحلي الكويتي -غير الرسمي- ممثلاً في الصحف ومديري القنوات الفضائية الخاصة في مواجهة مع الحكومة الكويتية بداية الشهر الماضي، وذلك لرفضهم إجراء تعديلات على قانون (المرئي والمسموع)، مُحذرين من أن تلك التعديلات تضيّق مساحة الحريات في دولة الكويت. كما دعا رؤساء التحرير ومديرو الفضائيات الخاصة أعضاء مجلس الأمة إلى رفض تلك التعديلات في حال إصرار الحكومة على تقديمها! كما طالبوهم بتعديل القانون القائم حاليّاً بما يؤدي إلى تخفيف ما يتضمنه من عقوبات من شأنها تضييق مساحة الحريات التي وضعت الكويت في مكانة بارزة على خريطة الحريات في العالم. وفي البيان الذي أصدره المجتمعون -في جمعية الصحافيين- تم التأكيد على "التمسك بما ينص عليه دستور دولة الكويت من مواد تكفل حرية الرأي والتعبير، ورفض أي محاولات للتضييق على الحريات وممارسة الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة لدورهما ورسالتهما في أجواء من الحرية المسؤولة". كما استنكر بعض النواب التعديلات المقترحة على قانون (المرئي والمسموع) واصفين إياها بـ"الإرهاب الفكري ضد حرية الرأي والتعبير التي كفلها الدستور". كما تخوف البعض من أن تأتي الحكومة بتعديلات غير دستورية، كما حصل في المادة 44 من الدستور، وهي حرية الأفراد في الاجتماع والتجمعات، حيث جاء القانون وقيَّدها، ثم عرض الأمر على المحكمة الدستورية، فقررت إلغاء القانون. كما انتقد بعض رؤساء التحرير قانون (الجزاء) الذي رُبط بقانون (المرئي والمسموع) والمادة 15 منه التي قد تصل التهمة فيها إلى درجة التجسس والإخلال بالأمن الوطني، ("الوطن" 19/1/2010 ). كما حصلت حالات استجواب لكبار الشخصيات وحل مجلس الأمة وغيرها من المسائل التي تعتبر توجهاً ديمقراطياً. ولم يأت ذلك من فراغ، فدستور الكويت يضمن الحريات، وهذا ما جعل من الكويت ملاذاً لكثير من المناضلين ومن عانوا العسف الفكري، تماماً، كما ساهم الاتجاه الديمقراطي في ظهور ملامح حضارية مثل مدرسة الكويت الرياضية في أوائل السبعينيات، ثم مدرسة الفنون بأنواعها وأهمها المسرح. واليوم، ومع حدوث انشطارات اجتماعية وفكرية، تتعلق بملامح الحياة في الكويت، بعضها ذو صلة بمسألة البدون، وبعضها الآخر بالتحالفات القبيلية أثناء الانتخابات السابقة، وموقف الدولة من الديوانيات غير القانونية، وبعضها أيضاً يتعلق بالتشدد الديني، أو بالطائفية واختلاف المذاهب، مع كل هذا فإن دول التعاون الأخرى ترقب المشهد الكويتي بدقة! خصوصاً مع الانفتاح الفضائي، وظهور صحف وفضائيات تتبع اتجاهات معينة لربما لم تشهد الكويت لها مثيلاً في الماضي. وهذا بطبيعة الحال يؤثر على دول مجلس التعاون الأخرى! ولربما يجعل بعض هذه الدول ستفكر أكثر من مرة في منح التراخيص الفضائية والصحفية لعموم الناس! وعلى مستوى الحريات، نشط خليجيون في اتباع (السلوك الكويتي) الحضاري في المطالبة بالحقوق عبر المذكرات أحياناً والالتماسات أحياناً أخرى. كما أن مؤسسات المجتمع المدني -التي يشكو كثير من الكويتيين من عدم قيامها بأدوارها المأمولة- نجدها في دول مجلس التعاون الأخرى أقل بريقاً، بل وقد يصل الأمر إلى عدم السماح بقيامها بأدوارها أو وضع قوانين تقيّد نشاطها. وقد حدث حراك في دول خليجية أخرى في الآونة الأخيرة، فيما يتعلق بقضايا الحريات، وقوانين الإعلام. وتم رفع مذكرات للجهات المختصة تطالب بتعديل بعض القوانين أو إزالة بعض المواد التي تتعارض مع الاتجاه العام السائد في ضرورة منح المزيد من الحريات. وكان تأثير دولة الكويت فيما يتعلق بالحريات الصحافية واضحاً في مملكة البحرين خاصة، حيث تم التصريح للعديد من المؤسسات بإصدار صحف خاصة بعضها يميل إلى المعارضة "المستأنسة"، أو المسؤولة في تناول قضايا مهمة تتعلق بالعلاقة بين الحكومة والمجلسين، أو الحكومة والمواطنين. وظهرت مانشيتات في الصحف البحرينية ما كانت لتظهر قبل عشرة أعوام من التحديث السياسي أو البرنامج الإصلاحي للملك. وفي دولة قطر، وعلى رغم نجاح قناة "الجزيرة" في نشر الرأي والحريات، فإن السماح للمواقع الإلكترونية بنشر مقالات يرفضها رؤساء التحرير، وتداول قضايا لا تتطرق إليها الصحافة القطرية تمس جوهر العلاقة بين الحكومة والشعب، يعتبر أيضاً من الظواهر الحضارية المتسقة مع الاتجاه السائد نحو منح المزيد من الحريات، وإصدار قانون جديد للإعلام يأخذ المتغيرات العالمية في هذا المجال. وهذا الحراك نعتبره أيضاً صدى لما يحدث في دولة الكويت؛ وحتميات التاريخ وثقت مدى التأثير الكويتي في التحول الخليجي منذ بداية الستينيات، سواء في الصحافة أو المسرح أو الفنون الجميلة أو عبر عمل المرأة والاختلاط. ولكن تبقى لكل دولة من دول مجلس التعاون خصوصيتها وأرضيتها المحددة للتعامل مع المتغيرات -حيث لا نعني أنها تشكل نسخة من النموذج الكويتي في التحديث- بل ولا نزعم أن دول الخليج تعترف بأن (النموذج الكويتي) يصلح لكل هذه الدول. أو أن التجربة الديمقراطية الكويتية يمكن أن تكون مثالاً يُحتذى! ذلك أن لكل تجربة إيجابياتها وسلبياتها، بل وظروفها المحلية، وقضية اصطدام مجلس الأمة مع الحكومة وحل المجلس أكثر من مرة قد يكون نقطة من النقاط التي ستراجعها دول المجلس في التجربة الكويتية. لكننا مع المطالبات بالمزيد من الحريات، وعدم تقييد القوانين لروح الدستور. والإشكالية هنا أن أغلب القوانين في دول مجلس التعاون تأتي مكبلة للنص الدستوري! ولابد من الالتفات إلى هذه القضية التي تؤثر على مراحل التنمية ومشاريعها في هذه الدول. صحيح أن بعض دول الخليج قد تحتاج إلى عهود كثيرة للوصول إلى التجربة الكويتية، ولكن نعتقد أن رصد التجربة الكويتية، لا ينبغي أن يعني تأخير إطلاق المزيد من الحريات والإقدام على التحول الديمقراطي. وليس صحيحاً أن ما واجه التجربة الكويتية حتماً سيواجه التجارب الخليجية الأخرى، لأن لكل بلد ظروفه وعلاقاته بشعبه، وهذا أساس مهم لتطوير تلك العلاقة بما يحقق قيم العدالة ويرسّخ التوجه الديمقراطي. والمهم أن يظل الحراك مستمراً، وتحسن النيات من أجل خدمة المواطن وتأكيد كرامته وانتمائه لوطنه.