بحلول منتصف عقد الخمسينيات من القرن الماضي شهدت المواجهة بين الإنسان وميكروب السل تغيراً جذرياً مع اكتشاف المضادات الحيوية، وبالتحديد عقار "الستربتوميسين". وهو الاكتشاف الذي ولد آمالا كبيرة في أن البشرية ربما سيكتب لها أخيراً الانتصار في معركتها المصيرية مع هذا المرض اللعين. ومما زاد من هذه الآمال حدوث انخفاض هائل في حالات السل مع انتشار استخدام "الستربتوميسين". غير أن تلك الآمال سرعان ما تلاشت مع ظهور أنواع من الميكروب مقاومة للمضادات الحيوية، أدت إلى عكس الوضع، وتسببت مرة أخرى في تزايد مطرد في عدد المرضى. وهو ما دفع منظمة الصحة العالمية في عام 1993 إلى الإعلان عن تحول السل إلى طارئ عالمي، في سابقة هي الأولى من نوعها. والآن، وبعد مرور سبعة عشر عاماً على ذلك الإعلان التاريخي، أظهر تقرير صدر مؤخراً عن منظمة الصحة العالمية، بمناسبة الذكرى السنوية ليوم السل العالمي (World TB Day)، الذي يحل كل عام في الرابع والعشرين من شهر مارس، أن مرضى السل في بعض مناطق العالم يعاني ربعهم من نوع من الميكروب، لا يمكن علاجه بالعقاقير القياسية أو الاعتيادية. فعلى سبيل المثال، تكشف الفحوص المخبرية أن 28 في المئة من الحالات التي تم تشخيصها عام 2008 في منطقة شمال شرق روسيا، هي لإصابات بنوع من ميكروب السل مقاوم لعدة عقاقير. وهذه النسبة هي الأعلى في تاريخ انتشار الإصابات بالميكروب المقاوم للعقاقير، على أساس أن أعلى نسبة مسجلة سابقاً كانت 22 في المئة في مدينة "باكو" بأذربيجان عام 2007. ومن منظور عالمي، يظهر التقرير الدولي لعام 2010 حول انتشار ميكروب السل المقاوم لعدة عقاقير (MDR-TB) وفائق المقاومة (XDR-TB)، وقوع قرابة نصف مليون إصابة بهذه الأنواع الخطيرة من الميكروب عام 2008، توفي ثلثهم حتى الآن بسبب فشل العقاقير المتاحة في علاج مرضهم. وكما هو الحال في الكثير من الأمراض المعدية، وخصوصاً التنفسية منها، تتحمل القارتان الآسيوية والإفريقية العبء الأكبر من المرض، حيث تقع 50 في المئة من إجمالي حالات الإصابة بميكروب السل المتعدد المقاومة حول العالم، في الهند والصين وحدهما، وفي الوقت نفسه ترزح القارة السمراء تحت معدل إصابات يزيد عن 70 ألف حالة سنوياً. ومثل العديد من الأمراض المعدية الأخرى التي تستوطن قارتي آسيا وإفريقيا، يعتقد الكثيرون خطأ أن أنواع ميكروب السل المقاوم وفائق المقاومة، تعتبر مشكلة صحية بعيدة عن بلادهم ومواطنهم، حيث يعزلهم عنها البعد الجغرافي. وخطأ هذا الاعتقاد سببه تجاهل تأثير الزيادة الهائلة، والمترافقة بالكثير من اليسر والسرعة، في حركة البشر بين الدول والمناطق والقارات الآن، ضمن ما يعرف بظاهرة العولمة. فمنذ الربع الأخير من القرن العشرين، شهدت ظاهرة العولمة تزايداً مطرداً في مدى انتشارها، وفي عمق تأثيراتها. وهذه التأثيرات شملت العديد من جوانب الحياة الإنسانية، مثل الجوانب الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، بالإضافة إلى تأثيرها على معدلات انتقال وانتشار الأمراض، وعلى مشاكل الصحة العامة للدول المختلفة. وهو التأثير الذي يتضح من أهمية الدور الذي لعبته العولمة مؤخراً في انتشار مجموعة من الأمراض المعدية، وتحول بعضها إلى درجة الأوبئة أو إلى درجة الجائحة، كما حدث مع فيروس إنفلونزا الخنازير ومن قبله فيروس إنفلونزا الطيور. وهو ما يجعل تواجد هذه الأعداد الهائلة من المصابين بالميكروب المتعدد المقاومة، وفائق المقاومة، خطراً غير بعيد كما قد يعتقد كثيرون، وخصوصاً في دول الخليج العربي التي تستقبل سنوياً الملايين من العمالة الوافدة من جميع أصقاع الأرض، معظمهم من القارة الآسيوية. وحتى إذا ما افترضنا -جدلا- أن الفحوص الطبية البدائية التي تجرى قبل استخراج الإقامة للعمالة الوافدة، يمكنها أن تكشف بفعالية عن حالات السل النشط، فماذا عن السنوات الثلاث وهي مدة صلاحية الإقامة، التي يقضيها هؤلاء في دول المنطقة، ويقومون خلالها بعدة زيارات لدول متوطن فيها الميكروب؟ وبخلاف العمالة الوافدة، وهي حالة خاصة إلى حد كبير لدول المنطقة، تشكل حركة السياحة العالمية خطراً أكبر، في ظل الأعداد الهائلة من البشر الذين أصبحوا يفضلون قضاء عطلاتهم في دول أخرى. فحسب إحصائيات منظمة السياحة الدولية، شهد عام 2008 سفر ووصول 922 مليون سائح. وإذا ما أضفنا إلى هذا الرقم أعداد المسافرين من رجال الأعمال، وزوار المؤتمرات والمعارض، والباحثين عن عمل في دول أخرى، فسيتضح لنا مدى سيولة حركة وسفر أفراد الجنس البشري في بداية القرن الحادي والعشرين، وهو ما يترجم إلى عشرات الملايين من المسافرين خلال بعض المطارات، مثل مطار "هيثرو" بالعاصمة البريطانية الذي يمر من خلاله أكثر من 60 مليون مسافر سنوياً، ومطار "شارل دي جول" الذي يمر من خلاله أكثر من 55 مليون مسافر. وحتى بعض مطارات المنطقة أصبح يمر بها عشرات الملايين، مثل مطار دبي الذي مر به أكثر من 36 مليون مسافر عام 2008، من خلال 5600 رحلة أسبوعياً، على متن 100 شركة طيران، تتجه إلى 200 وجهة مختلفة حول العالم. ومثل هذه الأرقام والإحصائيات، سواء للعمالة الوافدة أو للسائحين، تظهر مدى سهولة انتشار ميكروب السل المتعدد المقاومة وفائق المقاومة بين الدول والقارات، وفي غضون ساعات قليلة، وهو ما يجعله من أخطر الطوارئ الصحية التي يواجهها العالم حالياً على الإطلاق.