شهدت الصين خلال السنوات الأخيرة سلسلة من التحولات الدراماتيكية، التي كان بعضها عميقاً إلى درجة أنها جعلت بعض الكلمات والمصطلحات التي كانت تُستعمل في يوم من الأيام لوصف هذا البلد، قديمةً ومتجاوَزةً. فهل مازال بالإمكان مثلاً الإشارة إلى مدن الصين كمدن من "العالم الثالث" فيما بات عدد ناطحات السحاب في شنغهاي يفوق عدد نظيراتها في كل مدن الساحل الغربي للولايات المتحدة مجتمعة؟ وهل يمكن وصف البلد بالشيوعي فيما يوجد بين قادة الحزب أعضاء رأسماليون وجناح عسكري يبدو أحيانا أشبه بشركة كبيرة متنوعة النشاطات؟ لا شك أن قراءة خبر حول فيلم تم حظر عرضه في بكين، أو منشق عاقبته الحكومة... فإن الغربيين الذين لا يهتمون بالصين إلا عرضا، قد يخلصون إلى أنه فيما يتعلق بالحياة الثقافية لا شيء قد تغير في الصين. والحال أن الواقع أكثر تعقيداً مما تبدو عليه الأمور. صحيح أن ثمة أصداء مزعجة للماضي في الأحداث الأخيرة، مثل الحكم بالسجن أحد عشر عاما على المعارض "ليو شياوبو" الذي أدين بتهمة التخريب، غير أنه هنا تحديداً تبرز ضرورة تحديث الأفكار. وفي كتاب "نهاية الثورة: الصين وحدود الحداثة"، يخبرنا مؤلفه وانج هوي، الذي يعد أحد أبرز المؤرخين الصينيين، لماذا كل ذلك! فالموضوعات التي يتناولها في هذه المجموعة من المقالات والحوارات، تُبين أنه رغم كون المشهد الثقافي لم يتغير بالوتيرة نفسها التي تغير بها أفق شنغهاي، فإنه لم يعد جامداً على الإطلاق. ولعله من المفيد، لإظهار التحولات التي طرأت على الحياة الثقافية الصينية، الإشارة إلى شيئين سيفاجئان كل من يقارن بين الصين في عهد ماو تسي تونج وحال الصين في القرن الحادي والعشرين. فأولا، سيُفاجأ من يقوم بذلك حين يجد أن المكتبات تبيع ترجمات صينية لروايات الكاتب البريطاني جورج أورويل حول العدالة الاجتماعية وأعمال أدبية صينية تتميز بالجرأة، مثل قصص زو وين التي تلقي نظرة استهجان وسخرية على التيارات والاتجاهات الاجتماعية الصينية المعاصرة. وثانيا، سيكتشف أن مؤسسات بكين للتعليم العالي، مثل جامعة شينخوا، توظف في أحيان كثيرة أساتذة تلقوا تعليمهم الجامعي العالي في الخارج ثم عادوا إلى الصين. والأرجح أن من يقيم هذه المقارنة سيزداد حيرة إذا سمع عن وانج هوي، على اعتبار أن مشوار هذا المؤلف يستعصي على التصنيف؛ ذلك أن وانج، والذي ساهم حتى عهد قريب في إصدار إحدى أبرز الدوريات الصينية "دوشو" (القراءة)، ليس معارضاً بالمعنى الكلاسيكي الذي كان سائدا إبان الحرب البادرة، على اعتبار أنه يؤيد العديد من سياسات الحكومة الحالية، كما أن مواقفه لا تنسجم دائما مع الخطوط والتوجهات الرسمية. ويتناول وانج العديد من المواضيع التي نشرت على صفحات دورية "دوشو" حين كان مسؤولا عن تحريرها؛ فيحلل الاختلافات بين مواقف "الليبرالي" و"السلطوي الجديد" و"اليسار الجديد"، مبرزاً ميله إلى الأخير. كما يتأمل أفكار فلاسفة مثل هانا آرندت وكارل ماركس، مركزاً على صلتها بمآزق الصين الحالية. ويناقش ضرورة النظر إلى احتجاجات 1989 باعتبارها نتيجة للتظلمات الاقتصادية والسياسية. واللافت أن تعاطيه مع هذا الموضوع كان جريئا وحذرا في آن واحد. ولا غرو في ذلك، فالموضوع يكتسي حساسية كبيرة في الصين تدفع العديد من الكتاب إلى تحاشيه تماما؛ غير أن وانج يفلح، أثناء تعاطيه مع حقل الألغام هذا، في الابتعاد عن الجانب الأكثر حساسية ألا وهو المذبحة بالقرب من ساحة تيانانمان. وحسب وانج، فإن الموضوع المهم لم يعد هو ماذا يتعين على الأمة الصينية فعله من أجل وقف تخلفها عن الركب، بل ما الذي فقدت بعد أن تخلت عن السعي وراء المساواة عبر الوسائل الثورية لصالح سعي ناجح في معظمه وراء الحداثة والتحديث. وهذا وحده يمنح أهمية كبيرة للكتاب، خاصة وأن لديه تأثيرا خاصاً يتمثل في إرغام القارئ على طرح كثير من التصورات والأفكار المسبقة حول قيود وإكراهات الحياة الثقافية الصينية جانباً. محمد وقيف الكتاب: نهاية الثورة: الصين وحدود الحداثة المؤلف: وانج هوي الناشر: فيرسو تاريخ النشر: 2010