"التيارات الإسلامية" وقصور الفهم الغربي
بعد أحداث 11 سبتمبر تنازعت أربع رؤى في تقييم الغرب لصعود حركة "الإحياء الإسلامي" في منطقة الشرق الأوسط، خاصة في شقها ذي الطابع الدولي أو "المتعولم"، الذي تعدى حدود البلاد التي نبت في تربتها، وساح في مناطق عدة على سطح البسيطة، تتوزع على قارات خمس تقريباً، وتمعن في تحدي القوة العسكرية والاقتصادية الأكبر في عالمنا المعاصر وهي الولايات المتحدة على مستويات تمتد من القيم إلى السياسات، ومن السلوك اليومي والتكتيكات قصيرة المدى إلى الاستراتيجيات البعيدة.
ونظرت الرؤية الأولى إلى هذه الحركة على أنها رد فعل لسياسة واشنطن الداعمة بشدة لإسرائيل، والمصرة بقوة في الوقت ذاته على قضم حقوق العرب إن لم يكن إهانتهم. ويقف تشومسكي على رأس متبني هذه الرؤية، التي تتسق في جانب كبير منها مع الرؤى والمواقف العربية الرسمية، وكثير من المواقف الشعبية، التي ترى في إسرائيل وجوداً من المنشأ، وسلوكاً مع الزمن، كياناً أجج الفتن في "الشرق الأوسط"، فأفرز تفلته من القانون الدولي واحتماؤه بالقوى الكبرى عالمياً شعوراً عاماً بالحنق والغضب.
وتعاملت الرؤية الثانية مع حركة الإحياء الإسلامي عموماً بوصفها تمثل جوهر "صدام حضاري" بين المسلمين والغرب، وقاد هنتنجتون من يتمسكون بهذا الاتجاه، الذي زادت أسهمه بعد تفجيرات نيويورك وواشنطن، خاصة أن هذا التصور رشح بقوة على خطاب الخصمين اللدودين، وهما الولايات المتحدة وتنظيم "القاعدة"، حتى أنهما تطابقا عقب 11 سبتمبر مباشرة حين تحدث بوش عن "حرب صليبية" وأعاد ابن لادن كلامه المعتاد عن "محاربة اليهود والصليبيين".
أما الرؤية الثالثة فتتعامل مع الإحياء الإسلامي على أنه رد ثقافي- نفسي يتماس مع دوائر سياسية واجتماعية واقتصادية أوسع من "الحداثة"، التي حمل الغرب لواءها، وهز بها رواسب ماضوية في الشرق الأوسط وغيره. ويدافع باول بيرمان عن هذا الفهم لحالة الاحتقان بين الجناح العنيف من الإحيائية الإسلامية والغرب، خاصة الولايات المتحدة.
ولكن هناك رؤية رابعة تلقى رواجاً في أوساط بحثية وفكرية عدة في الغرب تزعم أن هناك خصائص بنائية تجعل القطاعات الأكبر من الحركة الإسلامية، لاسيما تلك التي تأخذ بعداً دولياً، تزعم طرح نفسها "بديلا استراتيجياً" لما هو سائد، سواء على مستوى كل قطر عربي وإسلامي على حدة، أو كقوة عالمية بديلة. فالإسلام "دين عالمي" ونصه الأول المؤسس وهو "القرآن" يجذر تصورات ذات طابع أممي، تتجاوز حدود اللون والجنس واللغة والجغرافيا والزمن، وتجعل معيار التفرقة الوحيد بين البشر هو "التقوى"، وتحض دائماً على "الدعوة" التي تعني التبشير بالدين الإسلامي، و"الجهاد" الذي يعني مقاومة أي عدوان على المسلمين، أياً كان موقعهم ومكانتهم، وحماية ثغور الدول الإسلامية.
وهذه الطبيعة البنائية وجدت في الظروف العالمية الراهنة ما قد يوجه تنظيم "القاعدة" إلى منازلة "العدو البعيد" وهو الولايات المتحدة، لكنها لا تنتج في حد ذاتها، كما يتصور بعض الباحثين وصناع القرار في الغرب، عنفاً، عشوائياً كان أو منظماً. فالطبيعة ذاتها متجذرة في عقول بقية المسلمين ونفوسهم، إلا أنهم جميعاً لا يسيرون في الطريق ذاته الذي سار فيه تنظيم "القاعدة" والتنظيمات والجماعات المتطرفة التي ترفع من الإسلام شعاراً سياسياً لها. ومن ثم فإن طروحات من قبيل "صِدام الحضارات"، التي تعني في غايتها وضع العالم الإسلامي برمته، دون أي سند من حق أو مسوغ من عدل، في موقع "العدو"، لن تقدم حلا ناجعاً لمشكلة الإرهاب، ولن تحقق الأمن للولايات المتحدة، أو تسمح لها بأن تقنع العالم بأنها "قائد العولمة"، في مختلف أوجهها.
وهذه الرؤى بنيت في جوهرها على تحليل خطاب زعماء تنظيم "القاعدة"، قبل 11 سبتمبر وبعده، وإن كانت تتلاقى في بعض الجوانب مع طروحات غربية قديمة بذلت ما أمكنها من جهد في تفسير أسباب ظهور الحركة الإسلامية، بجناحيها المعتدل والمتطرف، لكنها فشلت في أن تقدم أجوبة جامعة مانعة في هذا المضمار. وفي حقيقة الأمر فإن "صدمة الحداثة" و"صدام الحضارات" و"الثأر من الولايات المتحدة" ليست كافية كمداخل للوقوف على حقيقة ما دفع ابن لادن والظواهري وأتباعهما إلى السير على درب مواجهة الولايات المتحدة. فبالنسبة للأول على الأقل فإن هذه الثلاثية كانت موجودة حين كان ابن لادن حليفاً ظاهراً لواشنطن إبان حركة "الجهاد" ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان. أما الثاني فظل عدة عقود مشغولا بمحاربة النظام في مصر، ولم يكن موقفه من الولايات المتحدة يتعدى حدود الاحتقان النفسي الناجم عن تأييدها السافر لإسرائيل، ووقوفها، في الوقت ذاته، خلف النظام المصري.
نعم غذت سياسات الولايات المتحدة المتحيزة لإسرائيل، الجائرة على العرب، حالة الغضب داخل كثير من الجماعات الإسلامية، الراديكالي منها والمحافظ، وساهمت، إلى جانب قمع بعض الأنظمة الحاكمة، في توجه بعض فصائل الحركة الإسلامية إلى العنف، وتحولها من "الداخل" إلى "الخارج"، سواء على مستوى التواجد أو تحديد الأهداف، وبمعنى أكثر دقة "تعيين العدو".
ويكمن الحل الناجع في حزمة من الإجراءات المتكاملة، أولها كف الولايات المتحدة عن مساندة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، والعمل بجدية في سبيل حل القضية الفلسطينية. وثانيها امتناع واشنطن عن مساندة نظم حكم غير ديمقراطية في العالم العربي، بما يسمح بتغيير سياسي وتحديث اجتماعي ذاتي، ينهي حالة الاحتقان من هذه الأنظمة، التي انعكست في جانب من كراهية الولايات المتحدة، إذ تنظر أدبيات الرعيل الأول من الحركة الأصولية الإسلامية إليها بوصفها داعماً لحكومات تقهرهم، وهو التصور الذي لا يزال سائداً. وهنا تنبع ضرورة فتح الطريق أمام احتواء الحركة الإسلامية، شريطة تخليها التام عن العنف، في الداخل والخارج، وتسليمها بقواعد مدنية للحكم تقوم على تداول السلطة واحترام حرية التعبير. أما ثالث هذه الإجراءات فيتمثل في "تعميق فهم الدين الإسلامي" وليس في إقصائه، فهذا أمر غير ممكن. وهذا التعميق يجب أن يناط بالفقهاء المعتدلين من المسلمين، الذين يلاقون قبولا لدى الناس، ويعون مستجدات العصر، ولا يفرض من الخارج، في شكل مطالب تنطوي على إجبار مبطن بتعديل مناهج التعليم الديني. فاليد الخارجية ستجعل أي محاولة إصلاحية ينظر إليها جماهيرياً بشكل سلبي، وهو ما يصب في مصلحة الجماعات الدينية المتشددة.