أصبح تشبيه القنابل الموقوتة شائعاً في لغة العنف السائدة هذه الأيام، لا فرق في الشيوع بين نذر تفجيرها في الخارج أو الداخل. فكلاهما سواء في سياق التأزم والاحتقان. ومع ذلك هناك قنابل موقوتة أشد فتكاً من التفجيرات على نواصي الطرقات في الدراجات والعربات المفخخة. إنها القنابل التي زرعها التاريخ ولم نحاول نحن نزع فتيلها، بما يكفي من جهد وعقلانية. وفي كل أوطان العالم الثالث تكاد توجد قنابل موقوتة تؤثر في نظمها السياسية. ولذا فهي، في الغالب، ما زالت معرضة لحروب أهلية أو فتن طائفية أو حركات أصولية أو فقر وتصحر ومجاعة وكوارث طبيعية دون الاستعداد لها إلا عن طريق التحالفات والمعونات الأجنبية. وربما يكفي ضرب المثل بثلاثة أوطان هي تركيا وإيران ومصر التي كان من الممكن أن تكوّن محوراً إقليمياً في مواجهة أميركا وإسرائيل. ولديه كل مقومات القوة من طاقة وأموال وعمالة وأسواق وخبرات. ولا ينقصه إلا الخيال السياسي والوعي التاريخي، والحراك الاجتماعي. ولذلك تعثرت حركة عدم الانحياز. وكادت تختفي بعد خمسة وخمسين عاماً من نشأتها منذ مؤتمر باندونج عام1955. لم تكتمل حركة التحرر الوطني، في العالم الثالث، ولم تنتقل من الخارج إلى الداخل. فتم التفريط فيها في الخارج. ومن الأوطان من استمر في عدائه للاستعمار بأشكاله القديمة والجديدة مثل معظم الأقطار العربية والإفريقية. ومنها من استمر في حركة التحرر الوطني واستكمالها في الداخل بعد الخارج مثل كوبا وفيتنام وجنوب إفريقيا وفنزويلا والبرازيل وربما أقطار أخرى. وكانت النتيجة القضاء على أهداف التحرر الوطني، الاستقلال عن الخارج، والحرية والعدالة في الداخل، وعودة التبعية للغرب. وليس بالضرورة أن يحدث ذلك دائماً عن طريق الاحتلال المباشر كما فعلت أميركا في احتلال العراق وأفغانستان، وإسرائيل في استمرار احتلال فلسطين وسوريا ولبنان، أو بالتجزئة الطائفية والعرقية والمذهبية في السودان والصومال ونيجيريا وتشاد ومالي، بل بعوامل داخلية صرفة (يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ) عن طريق التناقضات التاريخية التي لم تستطع بعض النظم الوطنية حلها. وأبقتها مغروزة في النفوس. فالتناقض الرئيسي في تاريخ تركيا الحديث مثلاً هو بين الجيش والحكومة، بين النظام العسكري والنظام المدني، بين الانقلاب والدستور، بين القوة والقانون. صحيح أن الجيش قام بدور وطني في تحرير تركيا من الاحتلال اليوناني الذي وصل إلى أبواب أنقرة كما وصل العثمانيون من قبل إلى أبواب فيينا، والمسلمون من قبل في عصر الفتوحات الأولى إلى جنوب فرنسا. وصحيح أيضاً أن الجيش قد نقل تركيا من عصر السلطنة والفساد والقهر والتآمر إلى العصر الحديث. وألغى الخلافة في 1924 كي تبدأ تركيا عصراً جديداً من الحداثة على النمط الأوروبي في الظاهر، القبعة بديلا عن الطربوش، والحروف اللاتينية بدلا من الحروف العربية، والعمارة الحديثة بدلا من العمارة الإسلامية، والزي الأوروبي الحديث بدلا من الزي الإسلامي. وقد كان لذلك بريق في عصره ونجاح وقتي. وقدمت العلمانية بالمعنى الغربي نفسها بديلا عن الدين، والقومية الطورانية بديلا عن الخلافة والأمة الإسلامية. والتحالف مع الغرب أفضل من التحالف مع الشرق. ونشأت أقلية من النخبة علمانية معادية لتراث الجماهير الإسلامي. متعاونة مع الجيش، وتحكم باسمه، وهو من ورائها يهدد بالتدخل في أي وقت. ويخرج النظام السياسي عن الخط المرسوم له. وطبقاً لقوانين التاريخ، ومنها الفعل ورد الفعل، في الظاهر والباطن، على الأمد الطويل بدأ يحدث رد الفعل في تركيا على الجيش في الظاهر في التمسك بالحجاب كرمز، وفي "حزب الرفاه" كسياسة معلنة مما أثار غضب الجيش وعودته إلى السيطرة على الحياة العامة والسياسية في البلاد. ثم ظهر "حزب العدالة والتنمية" يأخذ الإسلام كمضمون، الحرية والعدالة والدستور والقانون والاستقلال والتوازن في السياسة الخارجية بين دور تركيا الإقليمي والدولي، بين الشرق والغرب، بين العرب وإسرائيل. وفي الداخل اعتمد على النظام الشعبي الذي أتى إلى السلطة ديمقراطيّاً، ومساواة الجميع أمام القانون عسكري ومدني. ومع ذلك ما زال الغرب يتربص بها. وقد ساعد الجيش على الانقلاب على النظام الديمقراطي وهو يدعي الديمقراطية في ديباجات وادعاءات نظام "الشرق الأوسط الجديد" حتى تعود تركيا إلى سياستها التقليدية المتحالفة مع الغرب، والمؤيدة لإسرائيل، والمعادية للعرب، عوداً إلى قهر العسكر وضد تطور التاريخ. وهناك قنبلة ثانية موقوتة في إيران، قضية المعارضة والسلطة، والتعاطف مع المعارضة، وربما تأييدها علناً وسراً وإيصال حد التناقض بين "المحافظين" و"الإصلاحيين" إلى حد الصراع الدموي دون الاكتفاء بالتظاهر السلمي، وإحداث حرب أهلية مما قد يوقع البلاد في فتنة مسلحة كما يحدث في السودان والصومال والجزائر، وكما قد يحدث أيضاً في بعض أرجاء الوطن العربي الأخرى. لقد انتصرت الثورة على نظام الشاه، التبعية للخارج، أميركا وإسرائيل، والقهر في الداخل، "السافاك" والجيش. وتبنت سياسات مضادة: مقاومة الهيمنة الأميركية والاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ولأراضي سوريا ولبنان. كما نجحت في أيام خاتمي في عقد حوار سلمي بين "المحافظين" و"الإصلاحيين" باسم الإصلاح والسلم الاجتماعي. وهما كلاهما يمثلان تيارين أصيلين في التراث الديني الأصيل في كل العالم الإسلامي. وإنما القضية هي كيفية حل الخلاف، بالصراع المسلح والعنف السياسي طبقاً لمنطق "الفرقة الناجية"، على افتراض أن أحد الفريقين على صواب والثاني على خطأ، أن الأول ناجٍ وفي الجنة، والثاني هالك وفي النار. أم بمنطق الحوار ووفق منطق كون اختلاف الأئمة رحمة للأمة؟ إن الاختلاف حق شرعي، ونتيجة طبيعية للاجتهاد يحميه الإجماع من تحول الاختلاف إلى خلاف. ويحميه النص، الكتاب والسُّنة، على رغم إمكانية التأويل والانتقاء. والقنبلة الموقوتة هي دفع الخلاف بين "المحافظين" و"الإصلاحيين" إلى حد الصراع المسلح، لكي يصبح هو الجرح الدامي الذي يستنزف القوة في مواجهة الأعداء. ويعود نظام الشاه. وتنجح أميركا في شد الحصار حول روسيا والصين وجنوب شرق ووسط آسيا، وكذل؛ حصار العرب بين أميركا وإسرائيل. والقنبلة الموقوتة الثالثة في مصر، محلك سر ورفض كل حراك اجتماعي، من الأحزاب القائمة أو من الأحزاب تحت التأسيس ومنظمات المجتمع المدني، من المستقلين أو حتى ممن يعبرون عن نيتهم في الترشيح للرئاسة من أجل إعطاء البديل للحكم، والتاريخ ينزلق من تحت الأقدام، والزمان يتغير حتى تحولت الحياة السياسية في مصر إلى بركة راكدة في مواجهة إسرائيل التي تتوالى عليها الحكومات والتيارات المختلفة من "وسط" و"يمين". وقد تنفجر القنبلة في حالة غياب الفرد دون إعداد البلاد لمرحلة انتقال سلمي من حكم إلى آخر. فتقع في فوضى. وهو ما تأباه شخصية المصريين وطباعهم.