نعيش في عالمنا العربي زمن إرهاصات وتمخض الإصلاح، أو على الأقل هكذا تبدو الأمور لنا. فالمؤتمر حول الإصلاح يتبعه مؤتمر آخر حول الإصلاح، ولا تخلو دورية أو مجلة أو جريدة من رأي حول الإصلاح. والإصلاح حديث يدور حول السياسي وما يتجاوزه من اجتماعي واقتصادي، ويبدو أن تقارير التنمية البشرية حددت المحاور الرئيسية لعملية الإصلاح في العالم العربي، وهذا الثالوث تبسيطاً يلخص في عبارات ثلاث وهي الحرية والمعرفة وتمكين المرأة.
وهذه المصطلحات المرادفة للإصلاح، وبرغم أنها الغالبة اليوم على الحوار السياسي على مستوى العالم العربي، إلا أن توجس البعض منها ما زال حاضراً. فالبعض يرى أنها مرتبطة بمشاريع خارجية وأميركية بالتحديد، وخاصة في ارتباط هذه المفاهيم بمشاريع ومبادرات الشرق الأوسط الكبير. والمبادرات الأميركية في هذا المجال نراها أمامنا في طور التحول إلى مبادرات دولية للتعامل مع شرق أوسط عاق يعيش خارج الزمن وخارج حركة التاريخ. وهؤلاء المشككون في الإصلاح ينطلق البعض منهم من مفاهيم قومية وأصولية تعودوا عليها كنقوش في صخر صلب، ولا يريدون أن يطوروا في هذه المفاهيم. ولا يخفى أن المبادرات العربية للإصلاح غائبة أو مغيبة على أرض الواقع، والاستثناء محاولات قُطرية منفردة على درجات متفاوتة من النجاح.
والواضح أن لكل مرحلة لغة ولكل أيديولوجية لغة ولكل فصل من فصول التاريخ السياسي لغة. ففي المرحلة الناصرية، وهي مرحلة زاخرة غنية بالشعارات والمصطلحات، نجد أن الشعارات العديدة ارتبطت بالتحرير ولم ترتبط بالإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان. فالثورة كانت تمتلك يقينية خاصة بها، يقينية علمانية وخاصة في مرحلة الصعود وقبل أن تتورط في وحل اليمن وتسقط في فخ يونيو 1967.
والمصطلحات اختلفت. فشعار الحرية الذي طُرح من قبل البعث والأحزاب القومية غير شعار الحرية المطروح اليوم.
فالأول مرتبط بالجماهير كمصطلح عام جامع. أما اليوم فنحن أمام مطب أدق وأكثر تحديداً، وهمّه الأساسي حقوق الفرد السياسية والقانونية والاجتماعية. وهو تطور بلا شك إيجابي وندرك أنه إيجابي من تجارب قاسية مع سيطرة ديكتاتورية الفرد وتسلط الحزب على النظام العربي. ولعلنا اليوم ننتقل بهذا الجدل الدائر من دور الفرد كزعيم أوحد إلى الملايين من الأفراد العرب نثمّن حقوقهم الشخصية ونعود بالأمل لمستقبلهم الشخصي. والإدراك الجديد لمركزية وأهمية الفرد وضرورة صيانة حقوقه يتناقض مع شعارات المرحلة السابقة، والتي نادت بالصراع الطبقي واستغلت شعارات النقابات العمالية للتعبئة لسلطة مطلقة لونها واحد ومنهجها واحد.
بل وفي الاقتصاد ندرك أن مفاتيح التطور العربي تكمن في عبارات كالمبادرة الشخصية والاقتصاد الحر والقطاع الخاص وليست في التأميم والقطاع العام وما عرف بقوى الشعب العامل. فهمنا اليوم تمكين هذا العالم ونجاحه بعد أن تخلف عن العديد من مناطق العالم وأصبحت مصطلحات الإمبريالية والنضال والمعركة غير كافية لهذه المرحلة.
ولابد من التشديد على أن الشعارات التي تم رفعها لم يتحقق معظمها. وأما الإطار الذي فرضته على تطور الحوار السياسي على مستوى العالم العربي، فعبارة عن قيود جامدة ومكبلة لتطوره الفكري ونضجه المؤسسي بل وخير وسعادة شعوبه.
واليوم، ونحن أمام مفاهيم جديدة بدأت تسود أصداؤها الحوار العربي-العربي، فنحن أمام تطور إيجابي إنساني ينطلق من أننا أمام إجماع إنساني، ولا يمكن ولا يجوز أن نكون خارجه. كما أن واقع الحال يفرض مثل هذا التغيير. ونحن ندرك تمام الإدراك أننا نعيش قطرياً في العديد من الحالات المأزومة والمحتقنة من خليجنا العربي إلى محيطنا الأطلسي.