قبل نحو ثلاثة أشهر، بدا وكأن أوباما قد "خضع" لنتنياهو! لكن إعلان وزارة الداخلية الإسرائيلية (أثناء زيارة نائب الرئيس الأميركي) عزمها بناء 1600 وحدة استيطانية (استعمارية) جديدة في القدس الشرقية قد قلب الطاولة، وهو ما عكسته طريقة استقبال الرئيس الأميركي لضيفه نتنياهو في واشنطن. ورغم استمرار الأخير على مواقفه المتطرفة المانعة "للتسوية"، حرص أوباما وإدارته على استمرار طرح المواقف الواضحة تجاه رفض إسرائيل التجاوب مع الطلب الأميركي بخصوص "المستوطنات"، مع تأكيد تأييدها لحل الدولتين، في ظل استمرار الجهد الأقصى الأميركي لتفعيل "التسوية". هذا كله، جعل نتنياهو يلجأ إلى اللوبي اليهودي الأقوى، "إيباك"، حيث أكد في كلمته الأخيرة أمام ذلك اللوبي رفضه وقف الاستيطان في القدس المحتلة، معتبراً أن "القدس الموحدة هي عاصمة إسرائيل وليست مستوطنة"، وذلك بعد ساعات من تحذير هيلاري من انعكاسات الاستيطان على مصالح تل أبيب وواشنطن معاً. لقد وقف المحللون كثيراً أمام مواقف أوباما الأخيرة، متسائلين من أين جاءته هذه الجرأة، خاصة خلال اجتماع "إيباك" الذي حضره آلاف اليهود والصهاينة، مع ما يقارب 300 عضو من الكونغرس الأميركي. ولم ينتقص من جدية هذا التساؤل حقيقة منظمة "جي ستريت"، المنافسة لـ"إيباك"، كون "إعلان المبادئ" الخاص بالمنظمة اليهودية يؤيد إقامة دولة فلسطينية قابلة للحياة ضمن تسوية متفاوض بشأنها تقوم على حل الدولتين انطلاقاً من حدود 1967 على أن تكون القدس عاصمة مشتركة لكلتا الدولتين، علاوة على دعوتها للحوار -وإن عبر وسطاء- مع حركة "حماس". وطبعاً، لا يزال جناح "إيباك" -اللوبي اليهودي الأعمى بتأييده المطلق لإسرائيل- هو الأقوى، وعلى نحو بارز، من جناح اللوبي اليهودي "غير الأعمى"، ولا نقول "المبصر"، متمثلا في "جي ستريت"! وفي جميع الأحوال، لا يستقر القرار النهائي لأي إدارة أميركية عند إرادة اللوبي اليهودي وحده كما سنوضح لاحقا. والآن، إن كان تصلب نتنياهو ليس جديداً، فإن الجديد هو إصرار إدارة أوباما على حل الصراع العربي -الإسرائيلي كبؤرة للتوتر تحول دون الاستقرار في عموم المنطقة، ودون تحقيق سياسة أوباما بفتح صفحة جديدة مع العالمين العربي والإسلامي، خاصة بعد التأييد الذي حصل عليه من بعض القادة في مجالات عسكرية أميركية (من أبرزهم وزير الدفاع غيتس، والجنرال جيمس جونز، والآدميرال مايك مولين، والجنرال بترايوس). بل إن رئيس القيادة الأميركية الوسطى قد شهد أمام لجنة القوات المسلحة بمجلس الشيوخ موضحاً بأن "استمرار الصراع العربي -الإسرائيلي يغذي جذوة مشاعر العداء للولايات المتحدة في المنطقة، بسبب محاباة واشنطن ومساندتها لإسرائيل، مما يعرض حياة الأميركيين للخطر". وهو الأمر الذي أكده قادة سياسيون وإعلاميون بارزون آخرون على نحو لا سابق له. من جهتها، ترى إسرائيل أن المشكلة تكمن في فريق البيت الأبيض. لذلك، نجدها تلجأ لما يمكن تسميته اللوبي الصهيوني غير اليهودي ممثلا أساساً بالعناصر القوية المؤيدة لها في الكونجرس، عملا بمبدأ "الصديق وقت الضيق" للسيطرة على إدارة أوباما. وفي الوقت الذي وصف فيه هذا الأخير الصراع العربي الصهيوني بأنه "عقبة كبرى" في طريق المصالح الأميركية، قالت رابطة "مكافحة التشهير" -الصهيونية المنشأ والموقف- إن أوباما نفسه "يفكر بشكل خطير"! ومع انضمام "المؤتمر اليهودي العالمي" لموقف "الرابطة"، حث الجانبان أوباما على "عدم الإلقاء باللائمة على إسرائيل في الانتكاسات الأميركية بأماكن أخرى". على صعيد مقابل، يقول "شموئيل روزنر" في مقال بعنوان "من هو المؤيد لإسرائيل؟"، إن نائب وزير الخارجية الإسرائيلي "وافق على لقاء أعضاء من الكونغرس، لكن دون مرافقيهم من منظمة جي ستريت. فوزارة الخارجية تعتقد أن عناقاً إسرائيلياً لجي ستريت مشروط بتفاهمات مسبقة مع المنظمة على قواعد لعب تحدد انتقادها لإسرائيل ونشاطها دون تجاوز للخطوط الحمراء". لكن في مقال عنوانه "أزمة مع الولايات المتحدة وتنفس الصعداء في الإيباك"، يقول يوسي بيلين: "ازدحم جمهور بلغ نحو 10 آلاف شخص لاستماع البث المكرور: القدس عاصمة إسرائيل وإننا أصدقاء جيدون للولايات المتحدة رغم جميع خلافات الرأي. تكريم كبير، واحتضان كثير، ولا نهاية للتصفيق مع الوقوف. سنة بعد أخرى يعدون أعضاء مجلس الشيوخ الذين يأتون (أتى 60 هذا الأسبوع) وأعضاء مجلس النواب (لا يمكن العد)، ويتنفسون الصعداء: ما تزال "الإيباك" على قيد الحياة. كل ذلك -رغم الأزمة والكلمات الشديدة التي قيلت في واشنطن وفي تل أبيب، ورغم كلام بترايوس، ورغم جي ستريت، التي تعرض بديلا ليبرالياً معتدلا لسياسة الإيباك اليمينية المحافظة، ورغم النقد الذي يزداد للمنظمة. إيباك اليوم تواجه موجات انتقاد داخل الجماعة اليهودية الأميركية وخارجها". من جانبها، كتبت صحيفة "ذي غارديان" البريطانية (وغيرها من صحف عالمية بارزة) تقول إن إيباك حركت مناصريها في الكونغرس للضغط على البيت الأبيض بهدف دفع الإدارة الأميركية ورئيسها إلى تخفيف حدة مواقفهم تجاه سياسات "الاستيطان". وقد استهدف هذا اللوبي اليهودي من تحركاته تلك خلق انطباع عند الرأي العام الأميركي بأن موقف الإدارة من بناء المستوطنات في القدس لا يحظى بموافقة الكونغرس وأن العديد من المسؤولين الأميركيين يشاطرون الحكومة الإسرائيلية الرأي بخصوص بناء المزيد من "المستوطنات". إن ظهور منظمة جي ستريت انعكاس للتناقض الأميركي اليهودي مع السياسات التي تتبعها إسرائيل التي لم تدرك تغير المناخ في واشنطن، حيث وصف نتنياهو المنظمة بأنها مناهضة لإسرائيل، على عكس لجنة إيباك (واللوبي الصهيوني غير اليهودي في مجلسي الكونغرس). ومع ما يبدو من تأييد "اللوبي العسكري" الأميركي (وهو أقوى "اللوبيات" دون أي منازع) لسياسة قيادته السياسية الراهنة، وفي ظل هذا الشرخ الناشئ داخل بنيان الأقلية اليهودية المؤثرة في الولايات المتحدة... هل ينجح أوباما -حتى في ظل غياب النظام الرسمي العربي- في تحقيق رؤيته؟