حققت دول مجلس التعاون الخليجي في العقود الماضية تقدماً مهمّاً في تنويع اقتصاداتها من خلال تطوير البنى التحتية وإرساء أسس تنمية القطاعات الاقتصادية التقليدية، إلا أن التطور المذهل في تقنية المعلومات والاقتصاد الرقمي القائم على المعرفة والمعتمد على مراكز البحوث والدراسات والاختراعات العلمية لم تشمله عملية التطوير هذه، التي جاءت من خلال ضخ استثمارات كبيرة في شرايين القطاعات الاقتصادية المتعددة. ومن جانبه ركز القطاع الخاص الخليجي توجهاته الاستثمارية على تحقيق الربح السريع بصورة رئيسية، بطريقة عادة ما تكون عرضة لاهتزازات كبيرة بسبب تأرجح مستويات العرض والطلب من جهة والمضاربات الحادة من جهة أخرى، وهو ما يعرض اقتصادات المنطقة لتقلبات حادة بين فترة وأخرى. ومع ذلك، فقد حققت دول المجلس بعض التقدم في مجال اقتصاد المعرفة من خلال بعض القطاعات الحديثة كالمدن الاقتصادية الخاصة بتقنيات المعلومات والاتصالات، كما أن الاستثمارات الخليجية في قطاع الاتصالات تعدت حدود دول المجلس لتشمل العديد من بلدان العالم، إلا أن هذا التقدم تم بالاعتماد على التكنولوجيا المستوردة، كما ذكر ذلك بصورة صحيحة الدكتور أحمد زويل الحاصل على جائزة نوبل في الكيمياء أثناء حضوره منتدى الإعلام العربي بدبي في شهر مايو الماضي. ويبدو أن التنمية الاقتصادية المستقبلية ستعتمد على مدى التقدم الذي يمكن تحقيقه في مجال الاقتصاد المعرفي، وذلك بعد أن اعتمد العالم ولعقود طويلة على القطاعات التقليدية المستمدة قوة اندفاعتها التنموية من توفر المواد الخام الأولية، التي أوجدت صراعات حول العالم. ومع أن أهمية المواد الأولية ستبقى أساسية للنمو، إلا أن جدوى تسخيرها للنمو الاقتصادي ستعتمد، وبصورة كبيرة، على استخدام التقنيات المعرفية الحديثة في استغلال هذه الموارد. ولذلك، فإن إيجاد الأسس اللازمة للاقتصاد المعرفي تعتبر ضرورة ملحة لمجاراة التقدم العالمي الذي تحقق في كافة المجالات، حيث تعتبر مراكز البحث العلمي والمختبرات ومراكز التجارب والمعاهد العلمية مكونات أساسية للولوج في عالم اقتصاد المعرفة من خلال المساهمة في هذا التوجه العالمي السريع بتنمية الإبداعات والاكتشافات، لتصبح بلدان المنطقة ضمن البلدان المبتكرة للاختراعات العلمية، وليست فقط مستهلكة لنتائجها المبهرة. وإلى جانب ذلك، تأتي مسألة التعليم التي لا زالت تعتمد على الأساليب القديمة، حيث تفتقر معظم المدارس ودور العلم لأجهزة الكمبيوتر والمعدات الرقمية الحديثة، كما أن المناهج لا زال يغلب عليها الطابع الأدبي والتاريخي، مما يوجد مفارقات كبيرة بين مخرجات التعليم والمتطلبات التنموية. لقد تمكنت دول المجلس من تحقيق بعض التقدم في هذا المجال في السنوات القليلة الماضية، وبالأخص في مجال تقنيات الطاقة البديلة، إلا أن ذلك تم أيضاً من خلال تقنيات مستوردة، وهذه مسألة طبيعية في المرحلة الأولى، إلا أن توطين هذه التقنيات وتطويرها أمر سيوفر الأرضية اللازمة للتنمية المستقبلية، حيث يمكن الاستفادة من تجارب بعض البلدان الآسيوية في هذا المجال، ككوريا الجنوبية وسنغافورة. وبما أن دول المجلس منفردة لا تملك الكثير من مقومات هذا التوجه بسبب نقص القدرات التقنية والمؤهلات البشرية، فإن إقامة مراكز أبحاث علمية خليجية مشتركة، ربما يوفر الكثير من الجهد والنفقات، وتتوفر لها فرص النجاح والعمل بفعالية كبيرة. وفي هذا المجال وتحقيقاً للفائدة، فإنه يمكن توزيع مراكز البحث العلمي على أسس مجدية، على أن تشمل هذه المراكز العلمية كافة دول المجلس دون استثناء. لقد أصبح مثل هذا التوجه ضرورة موضوعية للمزج بين التقدم الاقتصادي والعلمي، الذي يعتبر المحدد الأساسي لما ستكون عليه اقتصادات مختلف بلدان العالم، بما فيها الاقتصاد الخليجي في العقود القادمة.