أصبح واضحاً أن إسرائيل تتحرك في البر والجو والبحر في حالة مطلقة من الحرية، وكأن لها أن تتصرف بوحشية وأن تهدد الاعتبارات الأخلاقية دون أن يؤاخذها أحد على نحو جاد، ولها أن تسفك الدماء على الأرض العربية وكذلك في المياه الدولية سواء كانت دماء عرب أم أتراك أم دماء نشطاء دوليين محبين للسلام والحرية. وفور الجريمة التي ارتكبت فجر الاثنين الماضي باقتحام وقتل وجرح عشرات المؤمنين بحق الإنسان في الحياة الحرة، هاجت القوى المنصفة، وتوالت البيانات من الدول تشجب وتستنكر الوحشية، وتدافع عشرات الآلاف في جميع أنحاء العالم يتظاهرون، وأسرعت الدول العربية وغير العربية التي تربطها علاقات دبلوماسية بإسرائيل إلى استدعاء سفرائها لإبلاغهم اللوم والاحتجاج. وفي المساء تم تنصيب السيرك الدولي المعروف باسم مجلس الأمن، فقد حالفنا الحظ إذ كان لبنان الرئيس المناوب للمجلس، وطالبت تركيا بصدور بيان رئاسي يدين إسرائيل بشدة ويعتبر ما حدث إرهاب دولة، ولكن بعد المشاورات والتدخل تم تخفيف الإدانة. ومطالبات الدول العربية وتركيا معاً بضرورة إجراء تحقيق مستقل نزيه ولكن بعد المشاورات تم حذف صفة مستقل ليترك لإسرائيل فرصة القول إنها هي التي ستجري التحقيق، وهكذا دواليك كما هو معروف. أما وجه "العبري الجديد" فقد أطل على العالم في صورة شبان حسني المنظر يتحدثون كل اللغات بطلاقة، بعضهم ظهر على شاشة عربية وبعضهم ظهر على شاشات أميركية وأوروبية، واللهجة الموحدة التي استخدموها تميز السمة الرئيسية لـ"العبري الجديد" تماماً كما أراده فلاسفة الصهيونية الأولى وهي سمة العجرفة. وقد قالوا جميعاً عندما سئلوا عن مبرر قتل مدنيين على السفن، إن المبرر هو أن هؤلاء قد استفزوا الجنود الإسرائيليين عندما اقتحموا السفن، وإن هذا جزاء كل من يستفز إسرائيل. وهي صورة أقرب إلى وحش ضار في الغابة مستعد لتحطيم أشجارها وقتل من يراه إذا ضايقه ورق الشجر الذي يتساقط بفعل النسيم. لقد طمح فلاسفة الصهيونية إلى إعادة بناء الشخصية اليهودية التي ورثت المذلة نتيجة الاضطهاد الطويل في "الجيتو" الأوروبي لكي تكون محملة بسمات مناقضة لحالة المذلة. انظروا إلى أين وصلت سمات "العبري الجديد" الذي أرادوه نقيضاً لليهودي الذليل، وتأملوا كيف يعيد هذا العبري الجديد إنتاج كل الفظائع والجرائم البشعة والمجازر وأشكال الاضطهاد والتمييز الديني والعرقي، التي ارتكبها ضد اليهودي في "الجيتو" المسيحيون الأوروبيون على مدى قرون. إننا لا نواجه نموذجاً عاقلاً لـ"العبري الجديد، بل نواجه غطرسة بالغة الشطط، ولا نواجه نموذجاً متوازناً للدفاع عن النفس، بدلاً من الاستسلام، بل نواجه حالة الوحشية المبيتة، واستعداداً حاضراً للقتل بدم بارد، ومواجهة المظاهرات بالرصاص والهتافات بالقنابل والحجارة بالطائرات والدبابات. إن كراهيتي لكل تاريخ الاضطهاد الأوروبي المسيحي والنازي لليهود تتضاعف عندما أرى سمات "العبري الجديد". إنني أكره هذا الاضطهاد، أولاً، لأنه انطوى على تعذيب بشر أبرياء في معظم الحالات لم يرتكبوا إثماً أو ذنباً بل حملتهم الكنيسة الأوروبية وزر "دم المسيح"، ثم رأت فيهم النازية أعداء لأسباب عنصرية. وأكره هذا الاضطهاد الأوروبي لليهود ثانيّاً، لأنه أنتج لنا هذا الوحش البشري الجديد المسمى "العبري الجديد" الذي جاء متوحداً أشد التوحد مع سمات المعتدي الأوروبي في عصور الظلام والعنصرية وعجرفة القوة.