إن الأطراف العربية هي الأقدر بكل تأكيد على بلورة رؤية لمستقبل العراق تقيه وتقينا مخاطر السياسات الخرقاء·
راهن الذين دافعوا عن السياسة الأميركية كثيراً على حقائق القوة الأميركية· كانت هذه السياسة لديهم تعبيراً عن قوة لا يمكن التصدي لها بغض النظر عن شرعية الأهداف التي تتوخاها أو مشروعيتها، ومن ثم لم يكن ثمة مناص لديهم من السير في ركاب السياسية الأميركية أو على الأقل التكيف معها· لم يدرك هؤلاء في لحظة من اللحظات أن القوة دون عقل وحسابات رشيدة لا تساوي شيئاً· أو إذا شئناً مزيداً من الدقة لا يكون بمقدورها سوى أن تدمر، وقد يتسع نطاق التدمير وتتراكم تكلفته الباهظة مادياً وبشرياً، لكن الأهداف لا تتحقق لأن القوة الغاشمة تخلق لها معارضين يخرجون من بين صفوف كافة الأطراف التي تنالها الآثار السلبية لاستخدام تلك القوة·
تداعت هذه الخواطر إلى ذهني وأنا أتابع مشدوهاً كيف تضيق الدائرة على الرئيس الأميركي ومعاونيه بسرعة لم يتوقعها الكثيرون حتى لتكاد تعتصرهم اعتصاراً في توقيت مبكر عما كان الجميع يعتقدون·
في يوم واحد حملت الأنباء مؤشرات لا تخطئها العين على نكسات متزامنة لسياسة الرئيس الأميركي داخل الولايات المتحدة الأميركية وخارجها· في الساحة الأميركية واجهت إدارة الرئيس بوش موجة عارمة من الانتقادات الحادة بعد أن أعلن ديفيد كاي رئيس فريق التفتيش على الأسلحة العراقية عدم تمكنه من العثور على أية أسلحة دمار شامل في العراق بعد ثلاثة شهور من البحث المضني· كان طبيعياً أن تعتبر الدوائر الديمقراطية على الأقل في المجلس أن النتيجة التي انتهت إليها اللجنة تثير أسئلة عديدة· ومن ثم طرح مبدأ الحرب الوقائية نفسه على بساط البحث بمنتهى الجدية· بل لقد وصل الأمر بالمرشح الديمقراطي للرئاسة الجنرال ويسلي كلارك إلى قول ما يؤنب المحللون العرب على قوله عادة من قبل الدوائر الأميركية وهو -والكلام هنا لكلارك- أن الإدارة تولت السلطة وهي عازمة على حرب العراق واستغلت هجمات الحادي عشر من سبتمبر لتحقيق ذلك·
من ناحية أخرى وفي غير اتصال مباشر بالسياسة الأميركية تجاه العراق تحديداً وإن تكن له صلة بمنطق هذه السياسة بصفة عامة واجهت إدارة بوش نكسة أخرى عندما أصدرت القاضية الفيدرالية الأميركية ليوني برينكيما قراراً يمنع الادعاء الأميركي من المطالبة بإنزال عقوبة الإعدام بحق زكريا موسوي -المتهم الوحيد الذي يحاكم بتهمة الضلوع في هجمات سبتمبر- كما رفضت قيام الادعاء بتقديم أية أدلة على تورط موسوي أو علمه بالتخطيط أو تنفيذ الهجمات· وقالت القاضية في حيثيات حكمها: (بما أن الادعاء قد حرم موسوي من الاستناد إلى شهادة حاسمة من المحتجزين في القضية دفاعاً عن حياته، فقد اقتضى ذلك حذف عقوبة الإعدام كعقوبة محتملة ) · لفتت القاضية النظر بحكمها هذا إلى أمرين لا يقل أيهما أهمية عن الآخر، أولهما مدى التردي الذي أصاب منظومة حقوق الإنسان وضماناتها على أيدي الإدارة الأميركية الراهنة، والثاني أن النظام القانوني عامة والقضائي خاصة في الولايات المتحدة الأميركية ما يزال قادراً على التصدي لهذه الهجمة الشرسة على حقوق الإنسان، وهو ما يمثل مصدراً حقيقياً للأمل في أن تلك الإدارة التي تملأ الدنيا جوراً لا تعبر بالضرورة عن حقيقة المعنى الذي ترمز إليه الولايات المتحدة الأميركية·
في الساحة الدولية كانت النكسات لا تقل وطأة أو شدة، فقد تمخضت دبلوماسية الإدارة الأميركية عن مشروع جديد بخصوص العراق كانت تأمل في أن يصدر عن مجلس الأمن ليكون إطاراً للدعم الذي تنشده لسياستها الخرقاء في العراق عكسرياً واقتصادياً· ربما كانت تتصور كالسابق أن بعض تعديلات طفيفة هنا أو هناك كفيل بالحصول على موافقة المجلس، غير أن كلاً من فرنسا وألمانيا وروسيا أعلنت أن المشروع لا يبلي طلباتها المتمثلة في ضرورة النقل السريع للسلطة والسيادة إلى العراقيين، والملفت للنظر أن كوفي عنان الأمين العام للأمم المتحدة قد انضم في مبادرة غير مسبوقة إلى فريق المعارضين لمشروع القرار بابلاغه مندوبي الدول الأعضاء في مجلس الأمن أن مشروع القرار الأميركي لا يسير في الاتجاه الذي أوصى به، ووصف المشروع بأنه من غير الممكن وجود قيادتين مسؤولتين في العراق في الوقت ذاته وهما الأمم المتحدة والتحالف الأميركي- البريطاني · يلفت النظر في هذه التطورات أن تلك الدول نفسها - فرنسا وألمانيا وروسيا- وافقت ومعها الأمين العام على مشروع قرار جائر هو القرار 1483 الذي قنن الاحتلال الأميركي- البريطاني للعراق وآليات نهب ثروته الوطنية المتمثلة في النفط، وها هم يرفضون مشروعاً أقل جوراً بأحد المعايير، وليس لذلك من معنى إلا أن الواقع قد اختلف، إذ تأكدت في هذه الشهور القليلة بين صدور القرار 1483 في شهر مايو الماضي ومشروع القرار الحالي ورطة السياسة الأميركية في العراق وتخبطها· ومن ثم فإن الانصياع للرغبات الأميركية دون قيد أو شرط أصبح بلا معنى·
على الساحة العراقية تبرز الورطة الأميركية الأشد،