يعني "الخطاب الوظيفي" القول أو الكلام الذي يخضع لمقتضيات الوظيفة، عندما يتحول الكلام إلى حرفة، والقول إلى بضاعة، والخطاب إلى مقتضيات الوظيفة. ويحدث ذلك في الداخل في الخطاب الإعلامي والحزبي وإلا قد يفقد الإعلامي وظيفته، والحزبي مكانه في الحزب الحاكم وما يعد به من مناصب عليا. هو الخطاب الذي يبرر كل نظام، ويتحول بتحول أنظمة الحكم. ولا فرق في ذلك بين الخطاب السياسي والخطاب الديني. وكأن كلاهما حرفة وبضاعة، عند البعض، وليس قضية ورسالة. موجه إلى أصحاب الأعمال لتجديد العقود والاطمئنان على تمديدها. قد يحمله الأستاذ العربي المعار مؤقتاً أو المهاجر دائماً. ولا يلجأ إليه الأجنبي الذي يستعمل كفاءته وخبرته ومهنته. ويوحي بألا أحد مثله. وهو خطاب العاطل الباحث عن العمل المتعاقد مباشرة دون إعارة. الوظيفة حياته. والبلد الذي هاجر إليه وطنه وموطنه. حقق أمل حياته، وغيره من أهل بلده ما زال على قائمة الانتظار لدى أرباب الأعمال لتوقيع عقد العمل أو السفارات لاستلام تأشيرة الدخول. والأخطر من ذلك كله تغيير مضمون خطابه، فقد يحوله مثلاً إلى خطاب إسلامي التوجه، متظاهراً بالدفاع عن الإسلام ضد منتقديه في الداخل أو الخارج، ضد الحداثيين أو المستشرقين. فالإسلام هو ثقافة بلاد الوظيفة مع أنه أيضاً ثقافة بلاد البطالة. أما هو فكان قبل الهجرة إلى بلاد الرزق نقديّاً حداثيّاً فأصبح بعد الهجرة عقائديّاً إيمانيّاً نقليّاً، يتهم النقد بأنه كفر وإلحاد. كان قبل الهجرة ليبراليّاً يدافع عن الحرية، الحرية الفكرية، وحرية المواطن وحرية الشعب. فأصبح بعد الهجرة محافظاً، مثبتاً للقواعد وأهمها الإيمان التقليدي المحافظ الذي يقوم على الرقابة ومنع المفكرين والكُتاب الأحرار. كان قبل الهجرة ماركسيّاً شابّاً مطالباً بحقوق العمال ضد أصحاب رأس المال، وبالقطاع العام ضد القطاع الخاص، وبالحكم للشعب. فأصبح بعد الهجرة رأسماليّاً يدافع عن أصحاب الأعمال، وهو موظف عندهم، والقطاع الخاص، جامعة أو شركة، ورزقه منها. وباختصار: كان ثوريّاً قبل الهجرة، رافضاً غاضباً متمرداً على الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. فأصبح بعد الهجرة مدافعاً عن الاستقرار السياسي والأمن الفكري، الضامن لعقد الوظيفة. يتكلم أكثر مما يسمع. ويبشر أكثر مما يفكر، ويخطب فيما يعرف أكثر مما يبحث عما لا يعرف. تحول إلى داعية كإمام المسجد. وأصبح وكأن صِدقه في رفع الصوت وتطويل الخطاب حتى يسمع القاصي والداني هذا الجديد القادم المستعد لأداء ما يُطلب منه. وكأنه كلما زاد حماسه زاد صدقه. وكلما صال وجال عظم جهده، وأدى بنود عقده، وبرر مرتبه، حلم حياته. عيناه على المسؤولين ليطمئن على أنهم يسمعونه. وفمه في أذن المسؤولين حتى يسمعوا هذا القادم الجديد الذي أحسنوا اختياره دون غيره. البداية طيبة ولا نهاية لها. الغاية من الخطاب التأثير على المسؤولين، ولفت انتباههم إلى الموظف الجديد الذي يحسن أداء الوظيفة. وهو مستعد للإتقان أكثر. فمهاراته التي لا حدود لها تحت الطلب. غاية الخطاب تجديد العقد. فالسنوات تمر بسرعة حتى يتحول من عقد مؤقت إلى عقد دائم، ويمر من مرحلة الاختبار إلى مرحلة اليقين والاطمئنان. فتنتهي المنافسة على الوظيفة، والتفكير في إيجاد البديل. فالعرض كثير، والطلب قليل، والبطالة منتشرة، والعمالة نادرة. والوطن البديل وطن العمل والرزق هو المستقبل. والوطن القديم، وطن الفقر والبطالة، طواه النسيان. الكل يخشى أن يفقد وظيفته، وينتهي عقده لخطأ غير مقصود أو لدسيسة من عامل آخر استطاع أن يتقرب إلى صاحب العمل وينال لديه الحظوة ويحظى بالثقة. فكما يبحث العربي عن الرزق بالاتجاه شرقاً، يبحث غيره عن الرزق بالاتجاه غرباً. فتلتقي أفريقيا وآسيا في سوق العمالة والرزق. الوسيلة أصبحت غاية، والإعارة المؤقتة أصبحت وظيفة دائمة. ووسيلة الارتقاء بمستوى المعيشة تحولت إلى مصدر للثروة. لا يكفي سكن بالقاهرة للمُعار وللأولاد بل أيضاً سكن بالساحل الشمالي أو بساحل البحر الأحمر. ولا نهاية للإثراء. والثروة تولد الثروة حتى ينتهي الأمر إلى الاستقالة من الوطن الأم، وتحويل الإعارة المؤقتة إلى وظيفة دائمة، وبلد الهجرة إلى وطن بديل، إن أمكن. وتنتهي الصلة بينه وبين جامعته التي نشأ فيها طالباً وأستاذاً، ويحول الإشراف على طلابه إلى أساتذة آخرين. ويتوقف صوته المرتفع في مدرجه أمام المئات من الطلاب إلى صوت منخفض في بلاد الهجرة أمام عدد محدود من الطلاب قد لا يزيد على أصابع اليد الواحدة. وهو مهدد في أية لحظة بإلغاء المقرر الدراسي بلا إذن أو استشارة. وإمعاناً في الاندماج يتشبه بعادات بلاد الزرق في اللباس والتقاليد واللهجة. ونظراً لأن المهاجر من الغرب إلى بلاد الثروة يقدم نفسه عادة بعمله وخبرته، بإتقانه وحرفته، بحداثته ومدنيته، فإن المهاجر العربي قد يظهر هو أيضاً توجهه الغربي وثقافته الأجنبية ولغاته الغربية التي يحسنها. وبالتالي يصبح له سند آخر غير الثقافة الإسلامية، وهو الثقافة الغربية كخط دفاع ثانٍ لتجديد العقد واستمرار الإعارة. فلو حدث للشرق مكروه، فإن الغرب لا يحدث له أي مكروه. يدافع عن الغرب وقيمه، ويصبح ملكيّاً أكثر من الملك. ويعود إلى وطنه سائحاً أو أجنبيّاً، متعاليّاً عليه، بغناه بعد فقره. ربما يحترمه وطنه بعد أن أثبت جدارته في الخارج، وأصبح نموذجاً للمهاجر الناجح، وللمُعار الموفق. يصبح نموذجاً للشباب الجدد الذين ينتظرون دورهم في الحياة. وينتهزون الفرصة للهرب من الجحيم إلى النعيم حتى وإن كسب الجسد وفقد الروح. وينتهي المثقف الوطني الذي يظهر ما في قلبه على لسانه، صادقاً فيما يقول، ومؤمناً بما يفصح عنه. لا يهدف إلا إلى مصلحة البلاد، جامعة أو مؤسسة. الرزق من الله. والإنسان حر، لا يخضع لوظيفته. والمستقبل بيد الله، غير مرهون بدوافع الحاضر. العمل رسالة وليس حرفة، قضية وليس وظيفة. الوطن الأول دائماً يرحب بعودته إذا ما تعثر العمل في الوطن البديل. والقليل الدائم خير من الكثير المنقطع.