سيسجل التاريخ المعاصر أن إسرائيل شهدت في المرحلة الماضية واحدة من أسوأ حقبها بدءاً من تداعيات مجازر ومحارق لبنان وغزة وتقرير جولدستون الذي اتهمها باقتراف جرائم حرب، وصولاً إلى اغتيال المبحوح، وكشف سلاحها النووي من قبل جنوب إفريقيا، ومطالبة المجتمع الدولي لها في مؤتمر مراجعة الانتشار بالانضمام إلى المعاهدة وفتح منشآتها النووية وإخضاعها للتفتيش من قبل الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مع قرار بعقد مؤتمر عام 2012 لجعل الشرق الأوسط منطقة خالية من السلاح النووي، وهو ما يضع المجتمع الدولي، استطراداً، في مواجهة واضحة مع إسرائيل. ويتوج مسلسل التراجع، ومرحلة إسرائيل الصعبة هذه بالحماقة الفجة التي ارتكبتها بكل عنجهية وصلف وبلطجة بالاعتداء على سفن "قافلة الحرية" المتجهة إلى غزة لكسر حصار إسرائيل الظالم القائم منذ أربع سنوات. والراهن أن تداعيات هجوم الكوماندوس الإسرائيلي الذي وصفه وزير إسرائيلي سابق بأنه "قرار من الحمقى السبعة" أدى بضربة غير محسوبة واحدة إلى فقدان إسرائيل للكثير من رصيد تأييدها المتراجع أصلاً لدى حلفائها الذين تحولت إلى عبء ثقيل عليهم، بسبب ممارساتها القبيحة التي باتت ثوابت في السياسة الاستراتيجية الإسرائيلية. لقد وُلدت إسرائيل أصلاً من رحم الإرهاب والبلطجة وتعمّدت بالدم وارتوت من سلسلة المجازر والتجاوزات على العرب وغيرهم من شعوب المنطقة. وقد وفر الغرب لها الغطاء الدولي، على الدوام، بسبب تأنيب الضمير على خلفية المحرقة، وكذلك لكون إسرائيل اعتبرت حائط صد الغرب في وجه المد الشيوعي الزاحف حينها إلى المنطقة. لقد نتجت عن الاعتداء الوقح من قبل إسرائيل على "أسطول الحرية" في المياه الدولية الأسبوع الماضي، تداعيات خطيرة على إسرائيل إلى حد لامتها معه صحيفة "هآرتس" واصفة إياها بأنها "ضائعة في البحر". وزاد أردوغان على ذلك حين وصف جريمة إسرائيل بـ"إرهاب الدولة" وسحب السفير التركي في تل أبيب، وخفّض العلاقة التجارية إلى أدنى مستوياتها، ووعد بأن العلاقة لن تعود إلى ما كانت إليه قبل رفع الحصار عن غزة. وهذا ما ترددت أصداؤه أيضاً بعد الحادثة في روسيا والصين وفرنسا وبريطانيا والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة، وأطراف دولية أخرى كثيرة. وحتى هيلاري كلينتون قالت إن الوضع القائم في غزة لا يمكن أن يستمر. إن ما كشفته حادثة الاعتداء على أسطول "سفن الحرية" سلط الضوء على معاناة غزة وشعبها المحاصر، وتحول الأمر إلى كرة نار تحرق إسرائيل، وتزيد من عزلتها. وحتى الحليف الأميركي المحرج بدأ يتساءل عن جدوى تلك العلاقة، ولماذا تحولت إلى عبء عليه. وكمؤشر على عزلة إسرائيل قاطعت نسبة 40 في المئة من النرويجيين البضائع الإسرائيلية، وتطالب الآن منظمات مؤثرة في أوروبا بخفض التبادل التجاري معها. كما لا تقل عن ذلك أهمية خسارة التحالف مع تركيا، الدولة المسلمة الذي يتنامى نفوذها ليس في المنطقة فحسب بل على الصعيد الدولي كإحدى الدول النجوم الصاعدة في العالم. وردّاً على عدوان إسرائيل طالب أيضاً مجلس الأمة بانسحاب الكويت -التي شاركت بستة عشر ناشطاً ضمن من شاركوا في "أسطول الحرية"- من المبادرة العربية التي قُدمت في قمة بيروت، ودعا إلى فتح معبر رفح في الاتجاهين، وإلى أجل غير مسمى لأول مرة منذ سنوات. إنها "رياح السماء" الإسرائيلية التي جلبت المزيد من اللعنة والغضب العربي والتركي والإسلامي والدولي عليها، وأحرجت حلفاءها ومناصريها. وقد تكون تلك الحماقة قربت عمليّاً من كسر الحصار على غزة ووضعت إسرائيل وتجاوزاتها للقانون الدولي تحت المجهر. والأهم من ذلك كله أن تلك الحادثة قد تشكل بداية لرفع الغطاء الدولي عنها بعد تنامي التساؤل الجدي حول جدوى الانحياز الغربي لإسرائيل التي يهدد طيشها مصالح وحياة جنود أقرب وأوثق حلفائها. وهناك أيضاً تداعيات أخرى لا حصر لها نتيجة التخبط والطيش الإسرائيلي، وستكون آثارها واضحة ومحسوسة في حالة الجمود والاحتقان في الملفات الشائكة الأخرى التي يجيّر فيها خصوم الغرب ذلك الانحياز والاحتقان لتصفية حساباتهم مع خصومهم ومنافسيهم، بتأليب الشارع وإحراج المعتدلين والعمل لتحويلهم إلى متشددين. والآن وفيما تمر على العرب الذكرى الـ43 للنكسة، والذكرى السنوية الأولى لخطاب أوباما إلى العالم الإسلامي من القاهرة، الذي لم ينجح خلال العام الماضي في تحقيق الكثير من وعوده وأحلامه. في هذه الأثناء تشهد المنطقة اليوم تراجعاً حادّاً للمشروع الإسرائيلي، وتآكلاً للمشروع الإيراني، وصعوداً للنموذج التركي، وسباتاً للمشروع العربي. والسؤال: إلى متى تستمر هذه المعادلة غير المجدية والمحبطة في الشق الذي يعنينا منها كعرب، إلى متى... يا ترى؟!