مثلما كان متوقعاً، فقد وازت إسرائيل استخدامها المفرط للقوة ضد ركاب وناشطي السفينة "مرمرا"، بمحاولات لا تقل إصراراً هدفت إلى تشكيل القصة الإخبارية وكتابة محتواها حسبما ظهرت هنا في في الإعلام الأميركي، وكذلك تحديد استجابات مسؤولي واشنطن. ومن أجل ذلك الغرض، جندت إسرائيل عدداً كبيراً من أنصارها الذين يتحدثون باسمها ونيابة عنها، وحددت لكل واحد منهم مجال الضغط الذي يمكن أن يمارسه، إلى حد يمكن وصفه بتجنيد جيش كامل من الناشطين باسمها، بهدف مراقبة ما يكتب في الصحف والرد عليه وممارسة الضغط على الساسة والمواد المبثوثة عن حادث الاعتداء على أسطول الحرية عبر الشبكة الإلكترونية. وفيما يتعلق بالمضمون الخبري الذي أرادت إسرائيل بثه، فهو بمثابة رواية بديلة لما تم في الواقع. فهي تزعم مثلا أن السفن تمثل تهديداً أمنياً لإسرائيل طالما أنها كانت تكتظ بمجموعات "من أخطر الإرهابيين". وفيما لو صح هذا الزعم، فلابد من التساؤل عن الأسباب التي دفعت إسرائيل لإطلاق سراحهم. ومن المزاعم أيضاً أن كميناً عدوانياً قد نصب للجيش الإسرائيلي، ما اضطره للدفاع عن نفسه، وكأن عشرات الجنود الإسرائيليين الذين اقتحموا السفينة ليلاً كانوا مجرد متفرجين على ما يحدث حولهم. ومما ادعته النسخة الإسرائيلية من الرواية أنه كان ممكناً تسليم حمولة المعونات الإنسانية التي جاءت بها السفينة سلمياً لقطاع غزة، فيما لو تم تفريغها في أحد الموانئ الإسرائيلية أولاً. وتصل هذه المزاعم إلى نفي إسرائيل وجود أزمة إنسانية في قطاع غزة أصلاً. وهذا ما تدحضه الإحصاءات الموثقة التي قامت بها المنظمات غير الحكومية فيما يتصل بدراسة معدلات الفقر وسوء التغذية بين أطفال غزة. وعلى نقيض هذه الرواية الإسرائيلية، جاءت ردود الفعل الدولية الغاضبة على السلوك الإسرائيلي بحق ناشطي السلام وما نتج عنه من قتل وتنكيل. لكن إسرائيل لا تأبه في مثل هذه الحالات والأزمات عادة، طالما أنها توجه رسالتها إلى لاعب أوحد يلتزم وفي كل الظروف والأحوال بالوقوف إلى جانبها. فماذا لو صوت مجلس الأمن الدولي بأغلبية 14 ضد واحد إدانة لسلوكها، طالما أن ذلك الواحد هو الولايات المتحدة الأميركية؟ وعند النظر إلى الأمر من هذه الزاوية، فربما تنفست إسرائيل الصعداء إزاء التغطية الإخبارية الصحفية لما حدث صبيحة الاثنين الماضي بحق ناشطي أسطول الحرية. فعلى سبيل المثال، نشرت صحيفة "واشنطن بوست" افتتاحية في عددها الصادر في أول يونيو الجاري، دعت فيها إسرائيل إلى تخفيف قبضتها على فلسطينيي القطاع والضفة، إضافة إلى مطالبتها باتخاذ خطوة جدية صادقة نحو التسوية السلمية. بيد أن الافتتاحية لم تثر تلك المطالب في وجه إسرائيل إلا بعد أن أكدت -الافتتاحية- أن ناشطي السفينة "مرمرا" كانوا عبارة عن جماعة من المتطرفين الذين هاجموا الجنود الإسرائيليين بالمدي والقضبان الحديدية. كما اتهمت الافتتاحية تلك العناصر بأن لها صلات بتنظيم "القاعدة"، وبأنهم كانوا بمثابة استفزاز أمني عسكري للجيش الإسرائيلي. من جانب آخر، سارع عدد من أعضاء الكونجرس المؤيدين لإسرائيل بإصدار تصريحات مؤيدة لإسرائيل، فاحت من معظمها رائحة النسخة الإسرائيلية من الرواية. ومضى بعض أعضاء الكونجرس شوطاً أبعد من ذلك بكثير، من بينهم السيناتور جون ماكين الذي علق قائلاً إن ما حدث ليلة الاثنين ليس سوى حلقة ضمن سلسلة من حلقات الأحداث المؤسفة التي بدأت بإصرار الرئيس أوباما على ضرورة تجميد إسرائيل لأنشطتها الاستيطانية، باعتبار أن ذلك شرطاً لازماً لاستئناف المفاوضات السلمية. ومضى ماكين متهكماً في قوله: هل نطالب إسرائيل بتجميد أنشطتها الاستيطانية في القدس، رغم أن القدس هي عاصمة إسرائيل وليست مجرد مستوطنة؟ وهكذا يتضح أن ماكين لا يكتفي بقراءة الرواية الإسرائيلية للأحداث الأخيرة فحسب، بل يستعيد خيوط القصة القديمة التي كانت قد وردت على لسان نتنياهو أيام أزمة خطة بناء مستوطنات جديدة في القدس والضفة. لكن قبل أن نقرر نهاية القصة عند هذا الحد، يجب القول بانضمام عدد من الأصوات المسؤولة والعميقة التفكير إلى جوقة التعليقات السياسية على ما حدث ليلة الاثنين الماضي. فقد دعت رئيسة مجلس النواب، نانسي بيلوسي، إلى إجراء "تحقيق نزيه وشفاف" في ما حدث، وكذلك طالب السيناتور كيري، رئيس مجلس العلاقات الخارجية. كما صدرت تصريحات قوية من أعضاء آخرين في الكونجرس: دنيس كوسينتش، وكيث إليسون، وأندري كارسون وبتي ماكولم... أعربوا فيها عن قلقهم إزاء ما حدث. إلى ذلك طالب العضو ويليام دلهنت بإجراء تحقيق مستقل وغير متحيز عن أحداث صبيحة الاثنين، في إطار الحرص على العلاقات الثنائية بين واشنطن وتركيا. وتضمن تصريح دلهانت إشادة خاصة بالدور القيادي الذي تلعبه تركيا في المنطقة. ورغم استجابة أوباما الصامتة لما حدث، عمدت واشنطن مؤخراً -تحت ضغوط ردة الفعل الدولية- إلى اتخاذ موقف متوازن ويليق بها في هذه الأزمة. ضمن ذلك وصفت واشنطن استمرار حصار إسرائيل لقطاع غزة بأنه غير ممكن، بينما شجب أوباما "كافة الأفعال والممارسات التي أدت إلى عنف الاثنين الأخير". وبينما وصف أوباما إزهاق الأرواح الذي صاحب أعمال العنف هذه بأنه لا مبرر له، فقد لفت الانتباه في الوقت ذاته إلى مطالبة إدارته بالتحقيق في كل ما حدث.