يعيش العالم منذ الأسبوعين المنصرمين حالة قلما عاش مثيلاً لها من قبل، لقد تماهى العالم -لوقت قد يطول- مع نفسه، ودلَّل على أنه يرفض الإذعان لأمثال بوش ونتنياهو في زعمهما بأنهما يمثلان الحقيقة الإنسانية وروح العالم. لقد راح البشر في المعمورة كلها يكتشفون أن انتصار السلام على الحرب، والأمن على الجريمة، والتضامن على الأنانية الانعزالية، والتقارب بين الشعوب على العنصرية الهمجية، إنما هو أمر يمر على طريق مشاركة تضامنية حازمة بينهم. وهذا المطلب يتعاظم راهناً مع تعظم الأخطبوط الإسرائيلي الهمجي وزعمه في أنه سيد الأرض الفلسطينية والشعب الفلسطيني. لقد ضربت تل أبيب بعرض الحائط كل محاولات الدول والشعوب والمجموعات الإنسانية لإنهاء حصار شعب غزة من قِبل الاحتلال الإسرائيلي الغاشم، وهي محاولات سلمية وقانونية دولياً، كما تخاطب العقل والإنسانية والكرامة والحنين إلى السلام. ولعل هذا الجانب من الموقف لا يحتاج إلى إيضاح إلا بصيغة الإصرار على صدقيته وضرورته للعالم أجمع. لنلاحظ كيف ترفرف روح المناضِلة الأميركية راشيل كوري على رؤوس المناضلين الذين قدِموا من العالم، جنباً إلى جنب مع الطفل الشهيد محمد الدرَّة، مكوِّنين معاً حالة من الوهج الإنساني التضامني الكبير. وقد راحت هذه الحالة الجديدة تفتح آفاقاً أكثر عمقاً من سابقاتها، باتجاه تكثيف الإجماع العالمي على إنقاذ شعب غزة وفلسطين عموماً من إرهاب طغمة الاحتلال الإسرائيلية. وقد يكون ذلك أول تعبير عن نمط جديد من التضامن، القائم ما بين طرفين اثنين يمثلان تضاداً حاسماً فيما بينهما على الصعيد الرسمي، بين الولايات المتحدة الأميركية (العولمية)، وفلسطين المحتلة من استعمار استيطاني بغيض وحشي. وهذا دليل باهر على ضرورة التمييز بين الشعوب والنظم السياسية الجائرة. من طرف آخر، نتبيَّن من حالتنا هذه الباهرة، تعميقاً نظرياً لفكرة منهجية فلسفية، هي تلك التي تتضح بـ"جدلية الداخل والخارج". لقد ظهر "الخارج" هنا بمثابته امتداد عميق الجذور للداخل الفلسطيني، بحيث راح الاثنان يبدوان حالة واحدة، بتجلِّيْين اثنين. والحق، إن ما حدث فلسطينياً وعالمياً يأتي، في مرحلتنا الراهنة، رداً حازماً على مزاعم سادة النظام العولمي من أن العالم دخل منذ عام 1989 في الحلَبة الأميركية (والبريطانية الفرنسية...إلخ)، في بُعدهما الجديد، الذي بُشِّر ويُبشَّر بأنه النهائي في التاريخ، والوحيد الأبدي في المستقبل الكوني. لقد تماهى الداخل الفلسطيني بالخارج العالمي (ممثَّلاً بأبطال باخرة الحرية وبباخرة راشيل كوري والبواخر الأخرى القادمة)، ليُنتج حالاً جديدة لعلها أن تفتح أبواباً أخرى من انتصار الكرامة والحرية العربية، وإن كان ذلك مشروطاً بمزيد من الكفاح في سبيل فلسطين حرة ووطن عربي حر ومتقدم.