لعل الملمح الأبرز في المشهد السياسي العربي العام، هو تصاعد الدور التركي وتعاظم حضوره السياسي والإعلامي والثقافي في المحيطين العربي والإسلامي، لكن الملمح الأهم، أن العرب إذ يتوجسون من الدور الإيراني، فإنهم ينظرون إلى الدور التركي بتقدير كبير ويرحبون به، كونه دوراً إيجابياً بانياً ومساعداً على الاستقرار وحل النزاعات العالقة. نشرت "شؤون الأوسط" الفصلية المتخصصة بالاستراتيجيات الإقليمية، استطلاعاً يعود تاريخه إلى يوليو 2009، أي قبل الأحداث الأخيرة، عن صورة تركيا الحديثة لدى العرب، وجاء في الاستطلاع أن صورة تركيا في الساحة العربية تحظى بإيجابية عالية، وأتى الفلسطينيون والسوريون في مقدمة العرب الذين يثمنون الدور التركي وبنسبة 87 في المئة، وقد أجمع المشاركون في الاستطلاع على أن النموذج التركي في الجمع بين الإسلام والديمقراطية، مقبول، وأن الدور التركي مرحَّب به لحل النزاعات الشرق أوسطية. ولو قارنا هذه الصورة الجديدة بما كانت عليه قبل 10 سنوات لكانت النتيجة مذهلة، ولو تم الاستطلاع هذه الأيام لحازت صورة تركيا الجديدة نسبة 99 في المئة على سُلم الإيجابية والقبول لدى الجماهير العربية التي أصبحت تحمل الأعلام التركية وصور أردوغان، كبطل شعبي تحدى إسرائيل. وتجمع التحليلات على أن تلك الصورة المبهرة لتركيا الجديدة، وراءها مهندس السياسة الخارجية التركية ومنظرها، أحمد داود أوغلو. فهو صاحب رؤية استراتيجية مستقبلية تقوم على إبراز دور تركيا كلاعب مؤثر في مساحة جغرافية تمتد من إفريقيا إلى الشرق الأقصى، هي العمق الثقافي والتاريخي والاستراتيجي لتركيا. وقد تبنى "حزب العدالة والتنمية" منذ وصوله إلى السلطة في عام 2002 هذه الرؤية وجعلها دستوراً للسياسة الخارجية. نظرية أوغلو حول "العمق الاستراتيجي"، كما جاءت في كتاب له بنفس العنوان، تقوم على أن اسطنبول ليست مركزاً يجمع بين القارات فحسب، بل أيضاً مركز رمزي يدمج ويؤلف بين الحضارات، وهو يقول: "إن انخراط تركيا، من الشيلي إلى أندونيسيا ومن إفريقيا وأوروبا إلى منظمة المؤتمر الإسلامي، سوف يكون جزءاً من المقاربة الشاملة للسياسة الخارجية، وسوف تجعل هذه المبادرة من تركيا لاعباً دولياً مع اقترابنا من العام 2023 الذي يمثل الذكرى المئوية لقيام الجمهورية التركية". على أن هذه الصورة المبهجة لتركيا الجديدة ليست وليدة الأحداث الأخيرة، إذ ترجع بداياتها إلى حادثة دافوس في يناير 2009، والتي مثلت ذروة الغضب التركي من إسرائيل، عندما فجّر أردوغان أكبر قنبلة في تاريخ العلاقة التركية -الإسرائيلية، باتهامه بيريز -الرئيس الإسرائيلي- بقتل الفلسطينيين في غزة، ثم بادر إلى مغادرة الجلسة. وارتفعت الصورة إيجاباً بزيادة توتر العلاقات إثر تصريحات -مزراحي- قائد القوات البرية الإسرائيلية الذي اتهم الأتراك بارتكاب إحدى أكبر المجازر ضد الأرمن والأكراد، وتهجم على أردوغان شخصياً قائلاً: عليه أن ينظر إلى نفسه في المرآة أولاً! فجاء الرد الأعنف من المؤسسة العسكرية التركية قبل بيان وزير الخارجية التركية، ثم جاء الهجوم العدواني الإسرائيلي على سفن الحرية لتكون صورة تركيا لدى العرب أكثر إشراقاً وجاذبية، وليقول أردوغان "إن الأمور لن تعود إلى سابق عهدها مع إسرائيل". أما أوغلو فيضيف من جانبه: "نفسياً، هذا الهجوم بالنسبة لتركيا، مثل 11 سبتمبر بالنسبة لأميركا". لقد كان هجوماً مخططاً ومتعمداً، كما يصر الأتراك، رغم أن تركيا كانت أول دولة مسلمة تعترف بالدولة العبرية عام 1949، وكان ذلك الاعتراف حدثاً مؤلماً، وقد مثَّل أكبر وأهم اختراق إسرائيلي للساحة الإسلامية. ومن يتأمل حجم العلاقات العسكرية والاقتصادية والسياحية والشراكة الاستراتيجية بين تركيا وإسرائيل، والمقدرة بعشرات المليارات من الدولارات، يدرك كم خسرت إسرائيل حليفاً كبيراً لقاء نزوة انتقامية! وهذه فرصتنا لكسب الحليف التركي، فالأزمات تولد فرصاً -مقولة كيسنجر- لكن عليك اغتنامها وإلا اغتنمها الآخرون، نحن بحاجة إلى تركيا في صراع المواجهة، وتركيا تريد أن تلعب دوراً في خدمة القضية الفلسطينية، كونها قضية محورية راسخة في الوجدان التركي، كما تريد تحجيم الدور الإسرائيلي، لذلك فهي بحاجة إلى دعمنا، إن استثمار الفرصة، ودعم تركيا لا يكون بالمظاهرات ورفع الصور والأعلام وخطب الشجب والتنديد والشعارات... لكن عبر إجراءات عملية تتمثل في زيادة استثماراتنا في تركيا، وتشجيع السياحة إليها، وتوثيق العلاقات التجارية معها، وإلغاء التأشيرات وخفض الرسوم الجمركية أمام المنتجات التركية... وسوريا في هذا الميدان نموذج يُحتذى. لنرحب بعودة الحليف التركي إلى محيطه الطبيعي بإجراءات تعمق الروابط وتعود بالنفع المتبادل بين الشعبين التركي والعربي. تبقى تساؤلات: ما سر التحول التركي؟ وما طبيعة دوره وأهدافه؟ تفسيرات المحللين تختلف وتتباين ويمكن إجمالها في ثلاثة تفسيرات أساسية: 1- انعدام الأمل: وهنا تذهب بعض التحليلات إلى أن انعدام أمل تركيا في الوصول إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، هو الدافع في تحولها نحو العودة إلى العالم الإسلامي بعد أدارت ظهرها له 80 عاماً. 2- التنافس التركي -الإيراني: تُفسّر "راغدة درغام" هذا التحول بأن تركيا قررت "استراق القضية الفلسطينية من المصادر الإيرانية الشيعية لها لإعادتها إلى القيادة السنية"، عبر لعب دورين: احتضان الملف النووي الإيراني وانتزاع شعلة الراية الفلسطينية من إيران و"حزب الله"، وهذا ما يفسر تصريحات طهران بعزمها إرسال سفينتي مساعدات إلى غزة، وتصريح نصر الله بعزمه تنظيم "أسطول الحرية 2"، وإعلان قائد الحرس الثوري استعداده لحماية القوافل...والهدف هو أساساً استثمار اللحظة الحالية. لكن تركيا تدرك أن القضية هي جواز العبور والمدخل إلى قلوب المسلمين، و(ملف غزة) هو المفتاح، لكن صاحب المفتاح (حماس) هواه مع إيران، فهل تستطيع تركيا إقناع "حماس" بالمصالحة؟! لو نجحت لفازت بالسباق! 3- إقناع أوروبا: في تصوري أن الدور التركي هدفه، أو من ضمن أهدافه، إقناع الاتحاد الأوروبي بأهمية عضوية تركيا في الاتحاد كونها الأقدر على لعب دور يخدم الاستقرار في المنطقة، وهذا ما يؤمن المصالح الغربية في الدرجة الأولى. العضوية هدف استراتيجي لن تفرط فيه تركيا ولا صحة للقول بأنها تحولت من المحور الغربي إلى الشرقي، بل إن الدور الشرقي يخدم الهدف الاستراتيجي في النهاية.