انتهت انتخابات المجالس البلدية في لبنان، ففاز من فاز من المرشحين وخسر من خسر. ولكن القضية ليست هنا. القضية يحملها السؤال التالي: هل فازت الديمقراطية في لبنان، وهل عزز ذلك من سلامة المجتمع المدني ومن متانة الوحدة الوطنية؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من تسجيل العديد من الملاحظات الجوهرية، وفي مقدمها الطابع الطائفي والمذهبي العميق الذي اتسمت به هذه الانتخابات. فلم يسبق أن ارتفعت في فضاء الممارسة السياسية في لبنان وبهذه الكثافة والتركيز عبارات مثل الناخب المسلم والناخب المسيحي، والقرية المارونية والقرية الشيعية، والحي الأرثوذكسي والتجمع العلوي والدائرة السنية والدائرة الأرمنية... الخ. ولم يسبق أن طرحت علامات استفسار استفهامية عن موقف الناخب الدرزي.. وعن أولوليات الناخب الكاثوليكي وعن مخاوف الناخب الماروني وعن مصادرة الناخب الشيعي وعن حذر الناخب السني.. الخ. كذلك لم يسبق أن استحضر الخارج بألوانه الطائفية والمذهبية إلى ساحة الانتخابات البلدية كما جرى هذه المرة. فكان حديث عن مرشحين تدعمهم إيران.. وعن مرشحين آخرين تدعمهم دول الاعتدال، وعن مرشحين متعاطفين مع سوريا، وعن مرشحين متأثرين بالفاتيكان، أو بالولايات المتحدة! لقد تعوّد لبنان أثناء الانتخابات البرلمانية أن ترتفع فيه وتيرة الاتهامات المتبادلة حول النفوذ الخارجي، والتمويل الخارجي، والولاء الخارجي.. فكانت توصم هذه اللائحة من المرشحين مثلا بالانتماء إلى هذا المعسكر العربي أو ذاك، وكانت تتهم تلك اللائحة بالخضوع لتوجيهات هذه القوة الأجنبية أو تلك.. وقد يبرر البعد السياسي لدور المجلس النيابي إطلاق هذه الاتهامات ولو من غير دليل، ولكن الانتخابات البلدية المحكومة بسقف سياسي محلي منخفض، استدرجت المجتمع اللبناني هذه المرة، أكثر من أي وقت سابق، إلى خنادق طائفية ومذهبية لم يعرفها في أي وقت من أوقات السلم الأهلي. وقد بدا من خلال عملية الانتخابات البلدية وكأنه لا يوجد مقترع لبناني. بل مقترع مسيحي أو مسلم.. وبدا وكأن الهدف من الانتخابات ليس تشكيل مجالس بلدية بل مجالس ملّة.. وبدا أيضاً وكأن التنافس بين المرشحين لم يكن حول مشاريع التنمية المحلية بقدر ما كان حول مشاريع الغلبة الطائفية والمذهبية. وعندما وضعت هذه الانتخابات أوزارها، واصلت الدراسات الإحصائية مهمة تعميق الشرخ الطائفي والمذهبي من خلال تقييم النتائج. فكانت اتهامات لهذه الطائفة بأن أصواتها هي التي رجحت فوز أعضاء هذه اللائحة وأفشلت تلك.. وكأن التنافس جرى بين الطوائف وليس بين المرشحين. ومما زاد في تعميق الجراح الطائفية، الإحصاءات التي تحدثت عن عدد المسلمين أو المسيحيين الفائزين ومقارنته بعددهم في المجالس البلدية السابقة.. وكأن عملية الاقتراع ليست تعبيراً عن إرادة المواطن المفرد وعن خياره الشخصي الحر باختيار من يراه الأفضل لخدمة مدينته أو قريته، ولكنها تعبير عن الالتزام بطائفة ضد طائفة أخرى، فتحولت من خلال ذلك عملية الاقتراع من عملية للاختيار إلى عملية للرفض والإبعاد. لم يكن هناك فرح بالناجحين بقدر ما كان هناك تشفٍّ في الفاشلين. ذلك أن التنافس لم يكن بين مشاريع وبرامج للتنمية المحلية، ولكن التنافس كان شبه محصور في اختيار من هم أشد التزاماً بهذا الحزب الطائفي أو ذاك، وبهذا التجمع المذهبي أو ذاك، أو على الأقل كان محصوراً في اختيار من هم أكثر جرأة على التصدي للطائفة المناوئة أو للمذهب المنافس. نسي المقترع اللبناني أو حُمل على النسيان أنه عندما يدخل إلى غرفة العزل الانتخابي لإعداد ورقته التي يضعها في صندوق الاقتراع، إنما يمثل نفسه وضميره وقناعته. فعمليات غسل الدماغ التي مارستها الأحزاب والجمعيات الطائفية والمذهبية برمجت عقل المقترع بحيث أصبح -إلا من رحم ربي- يقدم الالتزام الجماعي القائم على العصبية الطائفية والمذهبية على الالتزام الفردي الذي يفترض أن يقوم على حرية الضمير والمصلحة العامة المشتركة. مع ذلك، بل ورغم ذلك، يعتز اللبنانيون بأنهم مارسوا ديمقراطية انتخاب المجالس المحلية (البلديات والمخاتير) بعد انتخاب المجلس النيابي. ولاشك في أن هذه الممارسة بشقيها تعتبر، في كل الأحوال، ظاهرة صحية. ولكنها ليست ظاهرة صحيحة. بمعنى أن الاقتراع يكون عملاً صحيّاً عندما يستهدف اختيار الأفضل. ولكن عندما يقدم الأقرب طائفيّاً أو مذهبيّاً على الأفضل من غير الطائفة ومن غير المذهب يفقد العمل الصحي صلاحه. وتفقد الممارسة الديمقراطية غايتها النبيلة. وفي الأساس ما كانت الديمقراطية في لبنان مثالية في أي وقت، فالديمقراطية المتعددة السقوف أبعد ما تكون عن المثالية. وحتى قبل أن يقول اتفاق الطائف بمبدأ المناصفة بين المسلمين والمسيحيين بصرف النظر عن العدد، وقبل أن يقول اتفاق الدوحة بمبدأ التوافق، كانت الممارسة الديمقراطية في لبنان تستجيب لمستلزمات تعزيز الوحدة الوطنية. فالأولوية كانت دائماً، ويجب أن تبقى، للوحدة الوطنية وليس للديمقراطية المثالية. يعتبر لبنان نفسه صاحب رسالة. ويعتبر أن لرسالته وجهين متكاملين. الوجه الأول هو العيش الوطني باحترام ومحبة بين الجماعات المتعددة دينيّاً ومذهبيّاً وحتى عنصريّاً (الأرمن) التي يتألف منها الشعب اللبناني؛ أما الوجه الثاني فهو احترام الحريات العامة وممارسة الديمقراطية في إدارة الشأن العام. ولكن ما جرى في الانتخابات البلدية لم يكن في مستوى هذه الرسالة، بل قد يكون أساء إليها. ذلك أنه لم يقدم خدمة للوحدة الوطنية.. وفي الوقت ذاته كان أبعد ما يكون عن الديمقراطية المثالية! من حيث الظاهر يبدو لبنان معززاً بمجلس نيابي منتخب. وبمجالس بلدية منتخبة.. ولكن هذه الظاهرة الجميلة تبدو أقل جمالاً في العمق.. فإذا كان المظهر الخارجي يقدم صورة جميلة عن "إرادة" الناس.. فإنه يفتقر في العمق إلى التعبير الصادق عن هذه الإرادة. يكون لبنان بخير عندما يكون واقعه في مستوى جمال مظهره.