يبدو الحديث اليوم عن الغطرسة الأميركية ضرباً من المبالغة، أو التقييم الجائر لبلد، وإن كان مازال القوة العظمى الوحيدة في العالم، إلا أنه يمر بصعوبات لم تعد خافية على أحد، إلى درجة أصبح فيها البعض يتنبأ بأفول نجم أميركا وصعود قوى عالمية منافسة لها، لاسيما في ظل المشكلات الداخلية المرتبطة بالأزمة الاقتصادية المستفحلة وتعاظم الدين الأميركي، فضلا عن العجز الكبير في الميزانية، ثم تعثر الحرب الأميركية في أفغانستان، وتراجع النفوذ الاستراتيجي لواشنطن في بعض المناطق. لكن رغم كل ذلك مازال في جعبة الكتاب الكثير من المآخذ والانتقادات للسياسة الخارجية الأميركية، وللطريقة التي تتعامل بها واشنطن مع المشكلات الدولية. ولعل الكتاب الذي نعرضه هنا، لمؤلفه الصحفي والأكاديمي الأميركي "بيتر بينارت"، وعنوانه "متلازمة إيكاروس: تاريخ الغطرسة الأميركية"، خير دليل على استمرار أصحاب الرأي في الاهتمام بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة وتأثيراتها المتشعبة على العالم وعلى أميركا نفسها دون التردد في وصفها بالغطرسة والتحذير من مساوئها. وفي سياق هذا التقييم يرجع بنا الكاتب إلى تاريخ السياسة الخارجية الأميركية على مدى المئة عام الماضية، مشبهاً إياها بتلك الأسطورة الشهيرة في الميثولوجيا اليونانية عندما صنع "إيكاروس" لنفسه أجنحة من الريش وألصقها بالصمغ، ثم قام بالتحليق عالياً في السماء، لكنه لفرط إعجابه بنفسه ومبالغته في الثقة بقدراته، اندفع للاقتراب من الشمس، غير مبال بالتحذيرات، فكان أن سقط سقطته المميتة. هذه القصة التي يوردها المؤلف يستعير منها الدرس والعبرة كي يفسر الغطرسة الأميركية التي تشبه إلى حد كبير ثقة "إيكاروس" بنفسه، والتي اعتبرها قدماء اليونان تحدياً للآلهة. فخلال قرن من الزمن وقع القادة الأميركيون في حب قوتهم الوطنية، بل بالغوا في قدرتهم على السيطرة وإخضاع العالم، ولأن النصر يولد الرغبة في تحقيق المزيد منه ويؤجج الشهوة إلى الحرب والقتال، وجدت أميركا نفسها بعد سلسلة من الحروب والمغامرات تقترب من "إيكاروس" وتحلق فوق طاقتها، فسواء تعلق الأمر بأدغال فيتنام البعيدة، أو صحاري العراق الحارقة، انخرطت أميركا في سلسلة من الحروب تحركها تلك الثقة المبالغ فيها وذلك التصور القائم على أنه لا شيء مستحيل على أميركا. وبالطبع كانت وراء فكرة العظمة التي نسجتها أميركا عن نفسها، سيرورة من التطور أدت إلى تبلور هذه العقيدة، حيث بدأت أعراض "التوعك الأميركي" كما يسميه الكاتب، منذ الرئيس "وودرو ويلسون" الذي مثَّل في نظر المؤلف النموذج الحي "لغطرسة العقل". فبعد مرحلة من الازدهار والتقدم المطرد الذي حققته الولايات المتحدة وصعودها مع بداية القرن العشرين كقوة حقيقية على الساحة الدولية، حاول الرئيس "ويلسون"، وبالاعتماد على مجموعة من المفكرين الذين عكسوا الروح الأميركية الصاعدة، صياغة دستور عالمي يدشن مرحلة جديدة من السلام بعد الحرب العالمية الأولى، بحيث اعتقد الأميركيون أن العقل والأخلاق قادران على نفي القوة والحلول مكانها. وبالطبع غاب عن أذهان الساسة الأميركيين وقتها أن العالم، وبخاصة في الجانب الآخر من المحيط الأطلسي، غير مهيأ للأفكار الأميركية التي لفرط إيمان الأميركيين بصوابها اعتقدوا أنها قيم عالمية، فقد كانت أوروبا منشغلة بصراعاتها الداخلية التي سرعان ما قادت إلى الحرب العالمية الثانية. لكن تاريخ الغطرسة يواصل سيرورته مع أميركا إذ لم يمنع هذا الإخفاق من تبلور تفاؤل آخر صاغه الساسة الأميركيون بعد الحرب العالمية الثانية وأطلق عليه الكاتب "غطرسة القوة" بعدما تشكلت عقيدة الاحتواء كإحدى الركائز الأساسية للسياسة الخارجية الأميركية في التعامل مع الاتحاد السوفييتي، لكن الاستراتيجية التي بلورها"جورج كينان" للتصدي للمعسكر الشرقي تحولت مع الوقت إلى استراتيجية عسكرية لمحاربة الشيوعية في كل مكان من العالم، وسرعان ما عززت بعض الانتصارات السهلة على الشيوعيين، في اليونان وإيران، ثقة أميركا ودفعتها إلى مزيد من التورط، بل حتى -يقول الكاتب- "عندما أدرك الرؤساء الأميركيون استحالة الاحتواء العالمي للشيوعية، لم يستطيعوا التصريح بذلك أمام الرأي العام الداخلي، وهو ما أدى بهم إلى الاستمرار في نفس السياسة والتورط في مزيد من الحروب". فمع أن الرئيس "جونسون" مثلا كان مهتماً أكثر بإنشاء "المجتمع العظيم" الذي تصوره، وجد نفسه بضغط من الساحة السياسية الداخلية الملتصقة بمفهوم العظمة وغطرسة النصر، مدفوعاً إلى استكمال الحرب في فيتنام، هذه الغطرسة التي ستتوالى مع رؤساء لاحقين وستتجلى في حروب أخرى كان آخرها حربا العراق وأفغانستان، وكأن أميركا لا تعتبر من احتراق أجنحتها، بل تندفع في كل مرة تجد فيها نفسها في وضع استراتيجي مريح، مثلما حصل بعد انهيار المعسكر الشرقي وانكشاف القوة الأميركية. زهير الكساب -------- الكتاب: متلازمة إيكاروس: تاريخ الغطرسة الأميركية المؤلف: بيتر بينارت الناشر: هاربر تاريخ النشر: 2010