"المونديال" فرصة لجنوب إفريقيا... وصعود دولي متوازٍ لتركيا انطلاق فعاليات كأس العالم وخيبة الأمل الفرنسية في بدايتها، وتداعيات فرض حزمة عقوبات جديدة على إيران، ومظاهر وحدود الصعود التركي على المسرح الدولي، موضوعات ثلاثة استقطبت اهتمام كُتاب افتتاحيات وصفحات رأي الصحف الفرنسية. حمى كأس العالم في افتتاحية صحيفة ليبراسيون ركز "فابريس روسيلو" على الأبعاد السياسية لانطلاق كأس العالم في جنوب إفريقيا، لجهة دلالته على ما يمكن لتلك الدولة تحقيقه من أهداف خلال الكأس، أولها إعادة تأكيد وحدتها الوطنية، وترسيخ مكانتها القارية والدولية باعتبارها إحدى القوى العالمية البازغة الآن بقوة اقتصاديّاً وسياسيّاً على المسرح الدولي. ويؤكد الكاتب أن جنوب إفريقيا لن تفوز على الأرجح بكأس العالم، ولكن هذا يهون إذا تمكنت أمة نيلسون مانديلا من تحقيق حزمة الأهداف السياسية الأخرى التي تتيحها فرصة استضافة أكبر حدث رياضي عالمي، في حد ذاتها. ولا شك أن بلاداً ما زالت تعيش على وقع انقسام عرقي حاد، وأيضاً تفاوت اقتصادي واجتماعي، توفر لها هذه المناسبة فرصة ذهبية لإظهار تماسكها الوطني أمام العالم، وقدرتها على مواصلة عملية العبور الشاقة في مرحلة ما بعد الفصل العنصري، وخاصة أن كل ما تم حتى الآن، على هذا الطريق، لا يتعدى وضع اللبنات الأولى لنظام ديمقراطي واضح الهشاشة. واليوم إذ تسلط كافة الكاميرات والعدسات في العالم إلى ذلك البلد يتعين عليه اغتنام هذه الفرصة الثمينة لإعطاء صورة إيجابية عن نفسه، بما يقنع الجميع بأنه كان فعلاً على مستوى الحدث. ولا شك أن وقوع أي حادث خطير، خاصة إذا كان أمنيّاً، سيعصف بصورة جنوب إفريقيا، وسيفسد العرس الكروي العالمي، الذي تستضيف القارة السمراء لأول مرة، دورته التاسعة عشرة هذه. وفي سياق متصل نشرت "ليكيب" افتتاحية لـ"فابريس جوهو" سعت فيها هذه الصحيفة الرياضية إلى تقليص سقف توقعات الفرنسيين من منتخبهم المشارك في كأس العالم الحالية، قائلة إن انطلاق "المونديال" أشاع أجواء عيد في كافة أنحاء العالم باستثناء فرنسا للأسف، فمنتخب "الديكة" يدخل إلى كأس العالم حاملاً معه مخاوف الفرنسيين، وشعورهم الوطني الواسع بالتشاؤم والقلق. وهو ذات الطرح المتشائم الذي نجده أيضاً في مقال للكاتب "برينو روجر بيتي" في صحيفة لوفيغارو أمس حيث حلل فيه ما أشرت إليه مباراة فرنسا- الأوروغواي التي انتهت بتعادل سلبي، موكداً أن ما تكشفت عنه تلك المباراة لم يزد على إعادة تأكيد المخاوف الواسعة في فرنسا من أن هذا المنتخب لن يستطيع المنافسة حتى أدوار متقدمة من المونديال. فكل أولئك الذين هاجموا التشكيلة الفرنسية وشككوا في قدرتها على الفوز بدا الآن دفعة واحدة أن شكوكهم كانت في محلها تماماً. ويمضي الكاتب معدداً أوجه قصور أداء لاعبي فرنسا في مباراتهم مع الأوروغواي، قائلاً: "ما زال أنيلكا يلعب في كل أنحاء الملعب باستثناء منطقته الخاصة، وجوفو لم يعد مفيداً في شيء، ولا يحرك ساكناً. أما ريبيري فلا همَّ له سوى تضييع جميع الكرات التي تهدى إليه. وجوركوف محاصر من قبل أنيلكا وربيري، ومثل سابقه لا يحرك هو الآخر ساكناً، ويجد نفسه منعزلاً، فنيّاً ونفسيّاً". وفي سياق حمى الاستياء العامة من مستوى الكرة الفرنسية عدد مكسيم ترافير في مقال بعنوان: "كرة القدم... بين المشهدية والحقيقة" نشره في صحيفة لوموند بعض مظاهر وأسباب أزمة الكرة الفرنسية، مؤكداً أنها لا تمر بأزمة واحدة في الواقع، بل بأزمات، عددها تباعاً. العقوبات ضد إيران الكاتب "بيير روسلين" تحدث في افتتاحية بصحيفة لوفيغارو عن العقوبات الأخيرة التي وافق عليها مجلس الأمن ضد طهران، مؤكداً أنها قد لا تحقق هدف وقف البرنامج النووي الإيراني، وذلك لأن مساعي وتوافقات تمريرها اقتضت أصلاً استبعاد الجوانب الأكثر صرامة منها، وإن كان هذا لا ينفي كون هذه الحزمة الجديدة من العقوبات، كما قالت هيلاري كلينتون، هي الأكثر رمزية بين كافة الحزم الأربع من العقوبات التي صدرت ضد طهران منذ ديسمبر 2006. ولا شك أن في هذا رسالة دبلوماسية يمكن قراءتها تحت أكثر من عنوان، يقول الكاتب. أولاً، فقد دلت هذه الحزمة الجديدة من العقوبات على أن سياسة الانفتاح الأميركية تجاه إيران أدركت نهايتها، ولذا فلم يعد وارداً بعد الآن الحديث عن دبلوماسية اليد الممدودة التي اتبعها أوباما منذ مجيئه إلى البيت الأبيض، قبل ستة عشر شهراً. لأن من الواضح أن تلك السياسة لم تحقق أهدافها، وأيضاً لأن الطرف الآخر لم يلتقط مؤدى الرسالة في الوقت المناسب. كما دل قرار العقوبات الجديد على أن محاولة الاختراق الدبلوماسي التي حققها "إعلان طهران" بين إيران وتركيا والبرازيل، لم تحظ بالقبول، في النهاية، من قبل الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن. وهنا أيضاً يتكشف جانب آخر مهم من التجاذب الراهن بين القوى العظمى التقليدية والدول البازغة الطامحة للعب دور مؤثر في المشهد الدولي، ولا أدل على ذلك من تصويت تركيا والبرازيل ضد قرار العقوبات. وإذ تأخذ الدول البازغة الآن مسافة أمان في مواقفها الدولية من القوى الكبرى التقليدية بما فيها الصين وروسيا، نرى بداية تحول وإعادة رسم جديدة لموازين القوى العالمية، مرشحة للبروز أكثر فأكثر خلال الفترة المقبلة، وخاصة أن تصويت الدولتين الصاعدتين ضد قرار العقوبات يبقي في جعبتهما خط رجعة إلى طهران، وقدرة على التأثير والوساطة. وفي صحيفة لوفيغارو أيضاً كتب جورج مالبرينو مقالاً بعنوان: "من الاستباق إلى الاحتواء... المقاربة الأميركية الجديدة تجاه إيران" لخص فيه مؤدى ما اعتبره مراقبون ومحللون استراتيجيون أميركيون تحولاً متناميّاً الآن في طريقة إدارة الصراع أميركيّاً مع طهران، وقد لخص ملامحه مقال بعدد مارس الماضي في مجلة "فورين أفيرز"، وأعيد تسليط الأضواء عليه أيضاً في عدة لقاءات فكرية جرت في أوروبا خلال الأسبوع الماضي. تركيا: حدود الصعود في صحيفة لوموند نشر الكاتب والأكاديمي فردريك آنسل تحليلاً سياسيّاً سعى فيه لتفكيك مظاهر وحدود حالة الصعود السياسي والدبلوماسي الراهنة التي تعرفها تركيا، قائلاً في البداية إن العواطف والتطلعات شيء، وإن الدبلوماسية شيء آخر. ومن المفهوم تماماً أن يشعر الشعب التركي بالصدمة بسبب الاعتداء الذي تعرضت له سفينة "مافي- مرمرة"، وما تلا ذلك -وسبقه- من مواقف صريحة -وأحياناً واقعية سياسية- صدرت عن أردوغان ضد إسرائيل. وفي كلتا الحالتين هنالك تعبير يزداد الشعور به في تركيا عن الرغبة في التخلص مما كان يعتبر شراكة تقليدية مع إسرائيل. وهي رغبة تأتي عمليّاً لتكرس طلاقاً سياسيّاً بين أنقرة وتل أبيب تدفع أصلا في اتجاهه توجهات وديباجات الدبلوماسية التركية منذ مجيء حزب "العدالة والتنمية" الحاكم إلى السلطة. وتدفع أيضاً إليه رغبة تركيا في التحول إلى قوة إقليمية مؤثرة في منطقة الشرق الأوسط. والخطوط العريضة الحاكمة للدبلوماسية التركية الآن تقوم على جملة محددات من أبرزها: إعادة التوازن إلى علاقات أنقرة مع مختلف القوى الكبرى دون الارتهان لواحدة بعينها (ومن هنا التقارب القوي مع موسكو)، وتصفية النزاعات والمشاكل وتبني سياسة "صفر مشاكل" مع دول الجوار (التهدئة مع أرمينيا)، وتقدم الصفوف في سياق قضايا العالم الإسلامي، وأخيراً العمل ضمن إطار الدول البازغة على لعب أدوار ذات زخم، وضمن استراتيجية صعود متواز لأنقرة. وفي كل هذه الخطط والاستراتيجيات التي تشتغل عليها تركيا الآن يبدو التخلي عن العلاقة مع إسرائيل هو الأكثر إغراء والأقل ثمناً -خاصة أن هنالك دولاً كثيرة تستطيع تزويد الطائرات التركية باحتياجاتها- إضافة إلى أن هذه الخطوة تزيد شعبية تركيا في الشارع العربي، خارجياً، وشعبية الحكومة في الشارع التركي، داخلياً. غير أن الكاتب ينبه إلى أن القطيعة مع إسرائيل قد لا تعود أيضاً بصافي أرباح سياسية بالنسبة لأنقرة، بل قد تكون لها آثار عكسية، خاصة لجهة إمكانية عمل اللوبي الموالي لإسرائيل في واشنطن على إلحاق الضرر بعلاقات العاصمتين الحليفتين. تماماً مثلما أن تعاظم الدور المناهض للغرب قد يؤدي إلى تهميش أنقرة ضمن بنيات الحلف الأطلسي. وليس هذا كل شيء، فلو زادت تركيا انخراطها في منطقة الشرق الأوسط فستكون في انتظارها أيضاً هناك تعقيدات مذهبية وحساسيات إقليمية ستجد صعوبة في احتوائها. وذات الشيء يصدق على دورها المتعاظم في آسيا الوسطى حيث تنتظرها حساسيات وتوازنات في العلاقات لا عد لها ولا حصر، أقله لجهة تأثير تحسن العلاقة الجديدة مع إرمينيا وروسيا مثلاً على العلاقة القديمة والتاريخية مع أذربيجان... وقس على ذلك بقية فخاخ التعقيد الإقليمي. إعداد: حسن ولد المختار