تتعرض نظم الرعاية الصحية في معظم دول العالم، ودون استثناء تقريباً، لتغيرات متسارعة، وضغوط متزايدة، تهدد قدرتها في المستقبل على توفير الخدمات الصحية الضرورية لشرائح كبيرة ومتعددة من أفراد المجتمع. وأول تلك التغيرات هو ما أصبح يعرف بظاهرة تشيُّخ المجتمعات الناتجة بشكل أساسي عن زيادة متوسط أعمار أفراد الجنس البشري، بمقدار عقدين كاملين خلال الخمسين عاماً الأخيرة فقط. فالشخص الذي يولد حاليّاً، يتوقع له أن يبقى على قيد الحياة لمدة أطول بعشرين عاماً مقارنة مع من ولد عام 1950 مثلا، وهو ما أدى بالضرورة إلى زيادة أعداد المسنين بشكل واضح بين أفراد الجنس البشري خلال هذه الفترة، وهذا يتضح من حقيقة أن عدد من تخطوا سن الستين قد بلغ أكثر من 650 مليون شخص في عام 2006، مع التوقع بأن يتضاعف هذا العدد إلى 1.2 مليار شخص بحلول عام 2025، وليصل إلى أكثر من ملياري شخص في عام 2050. ومن المعروف أن التقدم في السن يترافق بزيادة معدلات بعض الأمراض مثل التهابات المفاصل، وهشاشة العظام، وغيرها من الأمراض المزمنة التي ترتبط بالعمر وبالشيخوخة. وهذا الوضع ستنتج عنه بالضرورة زيادة في كمية ونوعية الطلب على الخدمات الصحية التي تقدم لهؤلاء المسنين، الذين تبشر الاختراقات الطبية الحديثة بارتفاع متوسطات أعمارهم أكثر فأكثر. ومما يزيد الموقف تعقيداً، أنه في الوقت الذي يزداد فيه الطلب على الخدمات الصحية من قبل هذه الشريحة العمرية، نجد أنها تتوقف عن المساهمة في الناتج الاقتصادي إلى حد كبير، وخصوصاً على صعيد الأنشطة الاقتصادية التي يمكن للدولة أن تجني من خلفها ضرائب، وهي المصدر الأساسي لتمويل نظم الرعاية الصحية في الدول التي تعتمد في الغالب على نظام صحي اشتراكي. ولذا نجد أن نظم الرعاية الصحية تتعرض بسبب هذا التغير الديموغرافي إلى ضربة مزدوجة، تقل فيها الموارد وتزداد في الوقت ذاته المصاريف والنفقات. والتغير الثاني الحادث في المجال الصحي الدولي، ودون استثناء تقريباً أيضاً، هو التغير في العادات الغذائية، ونمط الحياة الشخصية، مما أدى إلى ظهور موجة قوية مما أصبح يعرف بأمراض الكسل، كالسمنة، والسكري، وأمراض القلب والشرايين، حيث أظهرت مثلا تقديرات منظمة الصحة العالمية عام 2005، وجود 1600 مليون شخص فوق سن الخامسة عشرة مصابين بزيادة الوزن حينها، منهم 400 مليون مصابون بالسمنة المفرطة، مع توقع ارتفاع هذا الرقم بحلول عام 2015 إلى 2300 مليون، منهم 700 مليون مصابون بالسمنة المفرطة. ولم يسلم الأطفال من هذا الوباء، حيث تشير التقديرات نفسها إلى وجود أكثر من 20 مليون طفل حالياً مصابين بزيادة الوزن، أيضاً مع توقع استمرار زيادة السمنة بين هذه الشريحة من المجتمع. ومن المعروف أن السمنة تؤدي إلى حزمة متنوعة من الأمراض والعلل، يتطلب علاج كل منها نفقات مالية ضخمة، فعلى سبيل المثال، نجد أن السكري، الذي يعاني 55 في المئة من المصابين به من السمنة، كان أحد المراكز القومية الأميركية المتخصصة في جمع ونشر المعلومات عن هذا المرض، قد قدر أن تكلفة علاجه في الولايات المتحدة وحدها، تزيد عن 132 مليار دولار سنويّاً. وهذا الرقم على ضخامته، يبدو شديد التحفظ في ظل الدراسات الأكثر حداثة في هذا الموضوع. وحسب دراسة أجرتها الجمعية الأميركية لمرض السكري، بالتعاون مع إحدى أكبر الشركات المصنعة للإنسولين وحبوب علاج السكري، ظهر أن تكلفة هذا المرض في الولايات المتحدة تزيد سنويّاً عن 218 مليار دولار. وهذا الفرق في تقدير التكلفة، ربما يعود إلى أن الدراسة الأخيرة أخذت في الاعتبار الفئات الثلاث لتكلفة علاج السكري، وهي التكلفة المباشرة المتمثلة في الحبوب والإنسولين، والفحوص الدورية وغيرها، والتكلفة غير المباشرة المتمثلة في علاج مضاعفات المرض، مثل الفشل الكلوي، والعين السكرية، والقدم السكرية وغير ذلك، وفي النهاية هناك أيضا التكلفة الناتجة عن خسارة أيام العمل، وتراجع الإنتاجية، وخسارة رأس المال البشري بسبب الوفيات المبكرة التي تنتج عن السكري. أما السبب الثالث في رفع تكلفة نفقات الرعاية الصحية، فيعود إلى حد كبير إلى التطورات والاختراقات الحديثة في مجالي التشخيص والعلاج، حيث تعتمد المستشفيات والمراكز الصحية حاليّاً، على حزمة متنوعة من أجهزة التشخيص مثلا، التي كثيراً ما تبلغ تكلفة الجهاز الواحد منها عدة ملايين، مثل الرنين المغناطيسي، والأشعة المقطعية بالكمبيوتر، وأجهزة الأشعة الخاصة بقسطرة القلب، وغيرها. ويبلغ مدى هذا التطور درجة أن تجهيزات المستشفيات حاليّاً أصبحت تختلف بدرجة كبيرة عما كانت عليه قبل عقدين فقط من الزمان. وهذه التجهيزات لا تحتاج فقط إلى رأس مال لشرائها، وإنما أيضاً إلى نفقات تشغيل مرتفعة، بالإضافة إلى نفقات الصيانة المستمرة وباهظة الثمن. وهو ما ينطبق إلى حد كبير أيضاً على العقاقير الحديثة، عالية التكلفة. وكل هذه التغيرات تحدث في زمن تغير فيه واقع الأمراض، من حيث عولمتها، وسهولة انتشارها بين مختلف دول العالم وقاراته. فمن النادر حاليّاً أن نجد أن مرضاً معديّاً يظل على شكل وباء محلي، بل كثيراً ما تتحول هذه الأمراض إلى أوبئة عالمية، تتطلب مصادر مالية ضخمة لاحتوائها، كما حدث مؤخراً مع فيروس إنفلونزا الخنازير، وفيروس مرض "سارس" من قبله. بل إن طبيعة الانتشار الجغرافي للأمراض المعدية قد تغيرت هي الأخرى، بحيث أصبح على الكثير من نظم الرعاية الصحية التعامل مع أمراض كانت سابقة محصورة في مناطق بعيدة ونائية، مثل الملاريا في جنوب ووسط أوروبا، أو فيروس غرب النيل في أميركا الشمالية. د. أكمل عبدالحكيم Summary محمود